عندما استولى اليهود على القدس في عام 1967م عبروا عن فرحهم وخرجوا في مظاهرات عارمة وصاحوا قائلين: “محمد مات مات.. محمد خَلَفَهُ بنات”.
لماذا استولى اليهود على القدس ووصفوا خلف النبي بهذا الوصف؟
حصن الإسلام منيع
كان الإسلام من أول عهده هدفا لعدة هجمات قاسية عنيفة لا تحتملها ديانة من الديانات الأخرى, هجمات على الرأس والقلب والأعصاب, ولا ترضى إلا بشلله التام وفناءه, ولكن الإسلام تحمَّل هذه الصدمات وكل هذه الهجمات واستطاع النجاة والعيش رغم كل ذلك, بل شق طريقه إلى الأمام, وفتح فتوحا جديدة في ميادين العلم والمعرفة لم تكن في الحسبان.
ولكن لما جاست العلمنة خلال الديار, قوضت أبواب الحصن, ودكت جدرانه واحدا تلو الآخر, فظهر الانحلال العقدي والسلوكي, فوقعت الأمة بذلك في أخطاء قسمت ظهرها وقوضت حصنها, وأذهبت مدنيتها, وأهم هذه الأخطاء:
الخطأ التربوي
أفرز هذا الخطأ التربوي لنا جيلا لا يعبأ إلا بشهواته, وجيلا اتخذ الدنيا وجهة يستقبلها, يتعبد في محراب شهواتها, ويعتكف طالبا ملذاتها, لا يخطر له الدين على بال فضلا على البذل في سبيله.
إن هذا الجيل قد تعرض لحملة من التشويه الإعلامي تُضارع في شراستها حملة محاكم التفتيش في العصور الوسطى, كأن يكون بعد الحديث الديني “كليب” ماجن أو وصلات إشهارية أو مسلسل أو فلم يحوي مشاهد مخلة بالحياء, ثم تستطيع أن تسمع مذهولا عن مسلسلات تسمى دينية؟! يظهر فيها الأئمة عشاقا وأصحاب مزاج موسيقي، وتذوق عال لجمال النساء والفن!!
فالناظر على بصيرة ونور يتجلى له دور خبيث غرضه التأثير في أخلاق المسلمين, يزرع الجبن والهلع والرضا بالضيم, ونزع المكارم والمثل كالشجاعة والنجدة والحمية للدين ونحو ذلك, ما أنتج لنا شخصيات قابلة للمسخ والتشويه لكن القول كما قال الله عز وجل:
“وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً”
المثال الأوربي المحتدى تضعضع أساس مَدَنِيته, ولم يزل بناؤه متزعزعا, ولم تزده الأيام ولم يزده الارتفاع إلا زيغا واختلالا -انفصال أسري, عقوق, زنا, لواط, سحاق, انتحار, قنبلة ذرية, استعمار, استبداد, وغير ذلك كثير..- ولفساد بذرته, لم تصلح شجرته ولم تطب ثمرته لأن “الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً”, “وَالَّذِي خَبُثَ”: أي: التربة الخبيثة, والخبيث الذي في تربته حجارة أو شوك.
فالحضارة الأوربية ظهرت “في أمة لم يكن عندها مَعين صاف ولا نبع عذب للحكمة الإلهية, لقد كان فيها قادة للدين، ولكن لم يكونوا أصحاب حكمة ولا علم ولا شريعة إلهية.. هذا هو الذي مسخ العلوم الطبيعية فصارت آلة لهلاك الإنسان, وصاغ الأخلاق في قالب الشهوات والرياء والخلاعة والإباحية وسلط على المعيشة شيطان الأثرة والشح والفتك ببني النوع, ودس في عروق الاجتماع وشراينه سموم عبادة النفس والأنانية والإخلاد إلى الراحة والتنعم.. والحاصل أن البذرة الخبيثة التي ألقيت في تربة أوربا في نهضتها الثانية لم تأت عليها قرون حتى نبتت منها دوحة خبيثة, ثمارها حلوة ولكنها سامة, وأزهارها جميلة ولكنها شائكة, فروعها مخضرة ولكنها تنفث غازا ساما لا يُرى, ولكنه يسمم دم النوع البشري.
إن أهل الغرب الذين غرسوا هذه الشجرة الخبيثة قد مقتوها, لأنها خَلقت في كل ناحية من نواحي حياتهم مشاكل وعقدا, ولا يسعون لحلها إلا ظهرت مشاكل جديدة, ولا يفصلون فرعا من فروعها إلا وتطلع فروع كثيرة ذات شوك, فهم في معالجة أدوائهم وإصلاح شؤونهم كمعالج الداء بالداء، وناقش الشوكة بالشوكة.
إنهم حاربوا الرأسمالية فنجمت الشيوعية, إنهم حاولوا أن يستأصلوا الديمقراطية فنبعت الديكتاتورية, أرادوا أن يحلوا مشاكل الاجتماع فنبتت حركة تذكير النساء (إشارة إلى الدعوة إلى مساواة المرأة بالرجل).. فلا ينتهي شر إلا إلى شر, ولا فساد إلا إلى فساد أكبر منه, ولا تزال هذه الشجرة تثمر لهم شرورا ومصائب, حتى صارت الحياة الغربية جسدا مقروحا, يشكوا كل جزء منه أوجاعا وآلاما, وأعيا الداء الأطباء, واتسع الخرق على الراقع..
إن الأكثرية من رجاهم لا تزال تتوهَّم أن منبع المصائب في فروع هذه الشجرة, فهم يفصلونها ويستأصلونها من الشجرة ويضيعون أوقاتهم وجهودهم في قطعها, إنهم لا يعلمون أن منبع الفساد في أصل الشجرة, ومن السفاهة أن يترقب الإنسان أن ينبت فرع صالح من أصل فاسد, وفيهم جماعة قليلة من العقلاء أدركوا أن أصل حضارتهم فاسد, ولكنهم لما نشؤوا قرونا في ظل هذه الشجرة -وبأثمارها نبت لحمهم ونشز عظمهم- كلت أذهانهم عن أن يعتقدوا أصلا آخر غير هذا الأصل, يستطيع أن يخرج فروعا وأوراقا صالحة سليمة, وكلا الفريقين في النتيجة سواء, إنهم يتطلبون شيئا يعالج سقمهم ويريحهم من كربهم ولكنهم لا يعلمونه ولا مكانه” (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟!!)
وبعدما أزيل البرقع عن وجه أوربا تبين أنه إنما كان يخفي وجه امرأة شوهاء ذات قد مليح وثوب حسن, ولكن من تبلد إحساسه وانتكس ذوقه وأصيبت عين بصيرته بالحول يأبى إلا أن يقع في شراك حبها يعلَّل بذكرها صباح مساء, وهذا لا يصلح فيه إلا ما قيل قديما:
ما لجرح بميت إيلام
أشد العقبات التي تعرضت سبيل الأنبياء والدعاة, هم أولئك الذين تبلد إحساسهم الديني وفقدوه بتاتا, والذين تحجرت قلوبهم, وماتت نفوسهم, والذين لا يفكرون في أمر الدين وأمر الآخرة ولا يلقون له سمعهم, والذين إذا سمعوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي تخشع له الصدور وتلين له الصخور, ما كان جوابهم إلا أن قالوا: “إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ” أو إذا سمعوا كلامه السائغ المعقول قالوا: “مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ”.
إن هذا الضرب من الناس لا يهتم إلا بتسلية نفسه وترويحها, والنوم الهادئ في آخر الليل والراتب في آخر الشهر.. وأما ما بعد الحياة فهو عنده مجهول ووهم من الأوهام.
وقد عاب الشاعر العربي قديما الصعلوك الذي لا يتعدى نظره, ويقصر فهمه على اللباس والطعام:
لحا الله صعلوكا مناه وهَمُّهُ من العيش أن يلقى لَبُوسا ومَطعما
-لحا الله صعلوكا: دعاء على الصعلوك, بمعنى: لامه الله وعذله-
فكيف إذا أشرف هذا الشاعر على هذه المدنية وهي تجري بناسها بمختلف أجناسهم وأعمارهم وأوصافهم وأحوالهم وراء غاية لا تتعدى لبوسا ومطعما, مهما اختلفت أنواعها وتبهرجت ألقابها؟! فالحياة كلها جهاد في سبيل الشهوات, “بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمِونَ”.
فالذي حرم الحاسة الدينية لا تؤثر فيه دعوة الأنبياء, وخطب الوعاظ, وحوادث الزمان, وحكمة العلماء, وأمثال القرآن, ويصبح كل ذلك صيحة في واد ونفخة في رماد.
لقد أسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي
ولكن تبقى هناك أسئلة متحيرة تبحث على جواب في دنيا الناس فمن يجيب:
كيف نستعيد مجدنا الأثيل وهذه حالنا؟!!
كيف نستعيد مجدنا وقد استعبد الهوى قلوبنا؟!!
كيف نستعيد مجدنا والدنيا أكبر همنا؟!!
كيف نستعيد مجدنا والشهوات غايتنا؟!!
كيف نستعيد مجدنا والخلاف فرق ذات بيننا؟!!