العــزة بـالإســلام طارق برغاني

بلغ المسلمون أوج الحضارة وسادوا الشرق والغرب، وبلغوا منتهى الدولة القوية سياسيا وعسكريا، ثقافة وعمارة وحازوا مجد القيادة ونالوا أوفر حظ من العلم والابتكار والفكر، عندما أعزهم الله بالإسلام ومكن لهم في الأرض فخضعت لهم أعتى الأمم آنذاك وأشد الشعوب قوة كالروم والفرس، تحقيقا لوعد الله تعالى لهم بالنصر والتمكين.
يقول الله تعالى: “وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا” النور:55.
والمسلمون آنذاك على قلة عددهم وعدتهم، أمام جحافل الكفر وجيوش الشرك، لم يثنهم ذلك على فتح البلاد وتبليغ الدين وإعلاء راية التوحيد، لما أخذوا القرآن بقوة وعضوا على السنة بالنواجذ، وتخلقوا بأخلاق النبي صلى الله عيه وسلم، وكان خلقه القرآن.
وعزة المسلمين إنما هي في الأصل مستمدة ومستلهمة من الله عز وجل فهو المؤيد والهادي والنصير، يقول الله تعالى: “قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ ۖ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ” آل عمران:26، ويقول عز وجل: “وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ” المنافقون:8، ومن أسمائه تعالى المعز والعزيز ومعناها في اللغة القوة والرفعة والغلبة والامتناع، وهي ضد الذل والمهانة والصغار، “العزيز: من صفات الله عز وجل وأسمائه الحسنى.. هو الممتنع فلا يغلبه شيء.. هو القوي الغالب كل شيء.. ومن أسمائه عز وجل: المعز، وهو الذي يهب العز لمن يشاء من عباده. والعز: خلاف الذل..” لسان العرب:10/135.
والمسلم مطالب بتمثل صفات الله عز وجل في حياته والاقتداء بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فكلما ازداد المسلم تمسكا بالكتاب والسنة، إلا وازداد عزة وأبى المذلة والمهانة والصغار، وكان هذا نهج الصحابة رضوان الله عليهم، فقد جاء في الأثر: “خرج عمر رضي الله عنه إلى الشام، ومعنا أبو عبيدة، فأتوا على مخاضة، وعمر على ناقة له، فنزل وخلع خفيه، فوضعهما على عاتقه وأخذ بزمام ناقته فخاض، فقال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين أنت تفعل هذا! ما يسرني أن أهل البلد استشرفوك، فقال: أوه، ولو يقل ذا غيرك أبا عبيدة جعلته نكالا لأمة محمد. إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله” الترغيب والترهيب: 4/35.
وسبل بلوغ العزة والمكانة والرفعة، ليست بالمال ولا بالقوة ولا بالنسب، فكل ذلك إنما هو مجرد توابع ونتائج لتحقق منتهى العزة، ولكن العزة تنال باتباع كتاب الله عز وجل وتحكيم شرعه والخضوع لحكمه وتحمل أمانة الاستخلاف والتبليغ، ثم يستتبع ذلك كله ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم في سنته، والاقتداء بسيرته، والاتصاف بأخلاقه، وتتبع شمائله وتمثل فضائله.
فانتهاج هذين المنهجين وسلوك هذين السبيلين من أعظم مفاتيح العزة ومن أعلى أسباب التمكين، يقول صلى الله عليه وسلم مرشدا إلى أهمية التمسك بالقرآن والسنة: “تركتُ فيكم شيئَينِ، لن تضِلوا بعدهما: كتابَ اللهِ، وسُنَّتي، ولن يتفرَّقا حتى يَرِدا عليَّ الحوض” صحيح الجامع:2937.
ويأتي تكميلا لذلك، الأخذ بأسباب القوة المادية والمعنوية، وتتمثل الأولى في الاستعداد بالسلاح والتدريب وإعداد العدة والعتاد وتطوير التكنولوجيا والصناعة وتشجيع الابتكار، يقول الباري سبحانه: “وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُو اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ” الأنفال:60.
ويتحقق السبب الثاني، في اكتساب العلم والمعرفة النافعين، وارتقاء الفكر، المقيد بضوابط الشرع والخاضع لقيم الدين، للاجتهاد والتطوير، ويتمظهر ذلك في تجويد العنصر البشري بأنواع المعارف والمدارك وتنويع التخصصات والفروع والرفع من جودة التعليم والتشجيع على البحث والإبداع واستنهاض الهمم والعزائم، وقبل ذلك كله تأسيس روح الإنسان على العقيدة الصحيحة، يقول الله تعالى: “يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ” المجادلة:11.
ويتحقق أيضا بالاطلاع على تاريخ الحضارة الإسلامية والسيرة النبوية والوقوف على سير أعلام الصحابة والتابعين وعلماء المسلمين، وعلى رأسهم الأئمة الأربعة، وكذا على من نبغوا في الفكر والعلوم الدينية والدنيوية أمثال: ابن تيمية وابن القيم والبخاري والسيوطي والقرطبي والغزالي وابن خلدون وغيرهم.
والعزة بالإسلام أنجبت للأمة قادة أفذاذا لا يشق لهم غبار، كصلاح الدين الأيوبي وقطز ومحمد الفاتح وطارق بن زياد.. استطاعوا بإيمانهم وبعزة دينهم، إخضاع اليهود والنصارى والمغول والترك، وإخراج أمم كافرة من جهالة الشرك وضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، فهذا ربعي بن عامر رضي الله عنه في معركة القادسية عندما دخل على رستم وجنوده، “فقالوا له: ما جاء بكم؟ فقال: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لتدعوهم إليه..” البداية والنهاية، لابن كثير الجزء السابع.
وعزة المسلم أمام الكافر مطلوبة وواجبة بنصوص القرآن والسنة، وهي في المقابل تنقلب ذلة فيما بين المسلمين، يقول الحق سبحانه: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ” المائدة:45.
وهي تظهر في خلق التواد والتراحم والتعاطف وخفض الجناح وإجلال الطالب للعالم وتوقير الصغير للكبير وبر الابن بوالديه، ورحمة الأبوين بالأبناء، وإحسان الزوج لزوجته، واحترام الجار لجاره، ومحبة الصديق لصديقه، كما أن هذه العزة تصير تذللا وانكسارا وخضوعا من العبد لله عز وجل، في عبادته وخشيته وتقواه ودعائه وبكائه، وما كل ذلك في حقيقته إلا وسائل لاستمداد مزيد من القوة والرفعة واستجلاب لفيض من العزة والمكرُمة من الله عز وجل.
يقول الله تعالى: “وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ” آل عمران:139، “عقيدتكم أعلى؛ فأنتم تسجدون لله وحده، وهم يسجدون لشيء مِن خلقه.. ومنهجكم أعلى؛ فأنتم تسيرون على منهج مِن صنع الله، وهم يسيرون على منهج مِن صنع خلق الله! ودَوْرُكم أعلى، فأنتم الأوصياء على هذه البشريَّة كلِّها، الهداة لهذه البشريَّة كلِّها، وهم شاردون عن النَّهج، ضالُّون عن الطَّريق. ومكانكم في الأرض أعلى، فلكم وِرَاثة الأرض التي وعدكم الله بها، وهم إلى الفناء والنِّسيان صائرون.. فإن كنتم مؤمنين حقًّا فأنتم الأعلون..” في ظلال القرآن:1/480.
اللهم أعزنا بالإسلام وزدنا به رفعة وتمكينا، إنك ولي ذلك والقادر عليه.
والحمد لله رب العالمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *