كان الشيخ محمد تقي الدين الهلالي رحمه الله شاعرا مجيدا سخر شعره في سبيل الدعوة إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، والذب عنهما، ونصرتهما، ونحسبه من الشعراء الصادقين المخلصين الذين إذا قالوا الشعر قالوه في توحيد الله عز وجل والثناء عليه ومدح الرسول صلى الله عليه وسلم وصلحاء الأمة والزهد والحكمة والموعظة والآداب وما لا بأس به من المعاني التي لا يتلطخون فيها بذنب ولا يتلبسون فيها بمشينة ولا منقصة.
قال الشيخ رحمه الله:
“قد نظمت شعرا كثيرا بعضه جيد وبعضه متوسط، وإنما عنيت به في أول الشباب قلب أن يشغلني عنه شاغل، فلما فتح الله لي باب كتابه وسنة نبيه والجهاد في سبيله، ومحاربة المخالفين من مستعمرين ومطاياهم وهم شر منهم، ومستبدعين وزنادقة منافقين، وآخرين معلنين، شُغل بالي عن الشعر فتركت الاشتغال به، فوقفت في الدرجة التي وصلتها منه، ولم أزدد صعودا في مرقاته، ولولا ذلك لبلغت فيه غاية بعيدة فيما أظن، ولأن من أراد بلوغ الغاية في الشعر وفتح له بابه لا بد أن يستمر في نظمه طول عمره ولا يهجره، ومتى هجر الشاعر الشعر ضعفت ملكته فيه، إلا أنني لم أزل أعد إليه كلما احتجت إليه فأستدر ضرعه اليابس حتى يجود لي بقطرات”.
ولا تكاد تخلو مؤلفات الشيخ من أشعار قد تطول أحيانا، وفي بعضها لا تزيد على البيت الواحد.
وله ديوان عنونه بالهاديات، وآخر بقرة العين في مدح الملِكين، وآخر بمنحة الكبير المتعالي في شعر وأخبار محمد تقي الدين الهلالي.
وقد تناولت أشعاره مختلف فنون الشعر، من مدح وهجاء ورثاء وغزل ودعاء ووصف وحكاية ونضال وطرائف..
أولا: المدح:
يعد المدح أبرز غرض فني في الشعر العربي ويعنى المدح بصفات الممدوح التي تجعله مثلا عاليا وقدوة يقتدى به، وهي صفات تبعث في نفس الممدوح الشعور بالرضا والارتياح لخصاله التي يتمتع بها وما ينبغي أن يكون عليه، وكان ميزان المدح عند الشيخ دقيقا، فهو لا يمدح إلا من يستحق المدح، وإذا مدح فإنه لا يسرف في المدح ولا يبالغ فيه.
قال في أهل شفشاون:
جَزَى اللهُ شَفْشَاوُنْ بِخَيْرٍ وَنِعْمَةٍ وَنَجَّاهُمُ مِنْ كُلِّ شَرٍّ وَنِقْمَةِ
وَصَانَهُمُ مِنْ كَيْدِ كُلِّ مُنَافِقٍ لَئِيمٍ خَؤُونٍ هَاتِكٍ كُلَّ حُرْمَةِ
مَطَاعِينُ فِي الْهَيْجَا مَيَامِينُ فِي النَّدَى *** أَكَارِمُ شُجْعَانٌ مَصَابِيحُ ظُلْمَةِ
هُمُ نَصَرُوا الدِّينَ الْحَنِيفَ وَعَظَّمُوا *** حَدِيثَ رَسُولِ اللهِ خَيْرِ البَرِيَّةِ
وَقَالُوا لِدَاعِي الْحَقِّ لَبَّيْكَ إِذْ دَعَا *** وَقَالُوا لِبَاغِي الشَّرِّ أَبْشِرْ بِخَيْبَةِ
وَيَا أَهْلَ شَفْشَاوُنْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمُ *** سَتَبْلُغُكُمْ طُولُ الْحَيَاةِ تَحِيَّتِي
وَأَذْكُرُكُمْ بِالْخَيْرِ فِي كُلِّ مَجْلِسِ *** وَإِنْ كُنْتُ فِي بَغْدَادَ أَوْ فِي أَرْضِ بَصْرَةِ
ثانيا: الهجاء:
هو فن شعري يجرد فيه الشاعر المهجوَّ من القيم والمثل والأخلاق ويكشف عن عيوبه ونقائصه قصد إهانته والإزراء به، ولم يكن الهجاء في شعر تقي الدين هجاء شخصيا ذاتيا ينتصر فيه لرغبته وميوله بل كان منه جهادا ونضالا ودفاعا عن العقيدة الصافية وذودا عن حياضها والنيل من أعداء الله ورسوله وإصابة الكافرين وحرب أصحاب المذاهب الهدامة والآراء المنحرفة، فكان الشيخ يهجو أهل البدع ويكشف زيغهم وضلالهم ويهجو من أيدهم وعضد شوكتهم، أو تعاطف معهم، أو سكت عن بيان ضلالهم، ويهجو من يستغيث أو يستعين بقبر أو وثن أو ضريح، أو يصرف له شيئا من العبودية.. والهجاء حينما يتصل بالقيم والمثل الإسلامية يُـمدَحُ صاحبه، فإن الشاعر المسلم لا يعيب على الْمَهْجُوّ إلا انحرافا في دينه، وعزوفا عن الاستقامة عليه، وانصرافا إلى الآراء والأفكار والقيم الوافدة، فيكون هجاؤه نصرة للإسلام وأهله.
ومما قاله في شخص شتمه:
أَتَشْتُمُنِي يَا ابْنَ اللِّئَامِ بِلاَ سَبَبْ *** وَأَنْتَ يَمِينُ الله قِرْدٌ بِلاَ ذَنَبْ
فَلاَ أَنْتَ ذُو عِلْمٍ وَلاَ أَنْتَ ذُو حِجَى *** وَلاَ أَنْتَ ذُو تَقْوًى وَلاَ أَنْتَ ذُو حَسَبْ
تُحَارِبُ رَبَّ النَّاسِ فِي أَوْلِيَاءِهِ *** وَمَنْ حَارَبَ الجَبَّارَ أَوْدَى بِهِ الحَرَبْ
وقال في آخر:
لَنَا فَقِيهٌ عَالِمٌ بَارِعٌ مُسْتَأْهِلٌ لِلصَّفْعِ وَالذَّمِّ
ثالثا: الغزل:
هذا الفن من فنون الشعر التي أجاد فيها الشيخ، لكنه كان غزلا عفيفا يقوم على العاطفة المستقيمة، يخـتفي فيه عنصر الشهوة والاحتفال بالجسد، ويبـرز فيه الاهتمام بالصفات المعنوية والنفسية في المحبوبة، فشعر الغزل عند الشيخ يفصح عن العفة والحفاظ، ويعبِّـر صادقا عن المودة الدائمة، ويتجرد عن الشهوة والجسد، ويتجنب الفحش والمنكرات عكس الغزل الماجن الفاحش المتمرد عن الفضيلة والأخلاق السامية، وكان كثيرا ما يجعل هذا الغزل مقدمة لقصائده، مجاريا في ذلك عادة العرب؛ من ذلك قوله:
هَلْ بَعْدَ عَشْرٍ مَضَتْ بِالبَيْنِ تَكْوِينَا *** يَغَيِّرُ الدَّهْرُ يَوْماً حُكْمَهُ فِينَا
وَهَلْ ظَلاَمُ الأَسَى الغَاشِي لأَنْفُسِنَا *** يَجْلُوهُ نُورُ ابْتِهَاجٍ مِنْ تَلاَقِينَا
مِتْنَا وَنَحْنُ مَعَ الأَحْيَاءِ بَعْدَكُمُ *** مِنْ لَوْعَةٍ وَأَسًى قَدْ كَادَ يُفْنِينَا
وَمَا لَنَا بَاعِثٌ إِلاَّ لِقَاؤُكُمُ *** فَالبَيْنُ يَقْتُلُنَا وَالوَصْلُ يُحْيِينَا
فَالشَّمْسُ لَيسَتْ كَمِثْلِ الشَّمْسِ بَعْدَكُمُ *** وَالبَدْرُ لَيْسَ بِبَدْرٍ فِي نَوَاحِينَا
ومن روائع شعره:
لِيَ اللهُ مَا أَلْقَى مِنَ الوَجْدِ وَالْهَوَى *** وَنَارُ اشْتِيَاقٍ لاَ تَزَالُ تَوَقَّدُ
غَدَوْتُ بِشَمْسِ الْحُسْنِ صَبًّا وَلَيْسَ لِي *** سِوَى وَصْلِهَا شَيءٌ بِهِ الدَّهْرُ أَسْعَدُ
بِنَفْسِيَ أَفْدِي مَنْ سَبَانِي جَمَالُهَا *** وَأَهْلِي وَأَمْوَالِي طَرِيقٌ وَمَتْلَدُ
وَمُنْذُ رَأَتْ عَيْنِي بَرَائِعَ حُسْنِهَا *** شَعَرْتُ بِلَذَّاتٍ مِنَ الْحُبِّ تُوجَدُ
رابعا: الحكاية:
هذا هو القسم الغالب على شعره، وربما دخلت فيه الرحلة والرثاء والشعر الطريف وغير ذلك.
فَمن طرائفه أنه قال فيمن قبض له ديكا كان قد ضل منه:
يَا مُنْقِذَ الدِّيكِ مِنْ أَيْدِي الضَّيَاعِ أَلاَ *** جُزِيتَ خَيْرَ الْجَزَا يَا مُنْقِذَ الدِّيكِ
مَا زِلْتَ تَرْصُدُهُ بِالْخَتْلِ مُجْتَهِدَا *** وَأَنْتَ وَحْدَكَ فِيهِ غَيْرُ مَشْرُوكِ
حَتَّى انْقَضَضْتَ عَلَيْهِ غَيْرَ مُفْلِتِهِ *** كَبَاسِقٍ جَدَّ فِي آثَارِ مَكّوكِ
للهِ دَرُّكَ إِذْ أَقْبَلْتَ تَخْدَعُهُ *** بِعَرْضِ أُنْثَاهُ كَرًّا جِدَّ مَسْبُوكِ
وَصِرْتَ تَنْطِقُ إِذْ أَبَتْ دَجَاجَتُهُ *** مُحَاكِياً صَوْتَهَا كَكَا كَكَا كِيكِ
خامسا: الأشعار النضالية:
وهي الأشعار التي حارب بـها الاستعمار وأثار بها كل من له غيرة على دينه ووطنه إلى النهوض إلى الجهاد، وقد مثلت على ذلك بأشعار ذكرتها، وهي تمتاز بالقوة والصلابة وعدم التردد وإثارة الجماهير.
أُعَادِي فَرَنْسَا مَا حَيِيتُ فَإِنْ أَمُتْ *** سَأُوصِي أَحِبَّائِي يُعَادُونَهَا بَعْدِي
عَدَاوَتُهَا فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ *** وَإِنْ كَانَ فِي أَرْضِ القَرَاغِرِ وَالصّعْدِ
وقال في إذاعة برلين أثناء الحرب العالمية الثانية في بيان فظائع الاستعمار البريطاني سنة 1941 م أذاعها باسم مستعار هو أبو مرشد البصري:
قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى بِلاَدِي وَأَوْطَانِي *** وَمَاذَا جَنَى فِيهَا العَدُوُّ البَرِيطَانِي
أَتَاهَا مُغِيرًا غَازِياً مُتَلَصِّصاً *** فَصَبَّ عَلَيْهَا سَوْطَ بَغْيٍ وَعُدْوَانِ
فَأَعْلَى بِهَا قَوْماً لِئَاماً أَذِلَّةً *** وَأَنْزَلَ أَهْلَ الْمَجْدِ وَالْعِزِّ وَالشَّانِ
المميزات الشعرية:
أولا: السهولة والانسياب:
لم يكن الشيخ تقي الدين يُعَقِّدُ الكلام في شعره، أو يجعله غامضا، بل كان يجنح دائما إلى السهولة والتيسير، فيفهم الناس مقصده، ويجل الأدباء غايته، ومع ذلك فقد كان شعره شعرا فنيا بليغا، فيه الاستعارات وفيه المجازات وفيه الرموز والتصوير..، ولا أحتاج إلى التمثيل على سهولة شعره، إلا أن تلك السهولة التي تعامل معها الشاعر تقوده أحيانا إلى التقريرية فيصبح شعره عبارة عن منظومات أو أراجيز؛
انظر مثلا إلى قوله:
وَكُنْ دَاعِياً لِلْحَقِّ فِي كُلِّ مَوْطِنٍ *** وَلاَ تَخْشَ لَوْماً مِنْ عُدَاةٍ وَعُذَّالِ
وَقَدْ وَعَدَ الرَّحْمَنُ بِالنَّصْرِ حِزْبَهُ *** وَأَوْعَدَ أَعْدَاهُمْ بِخِزْيٍ وَإِذْلاَلِ
وَلاَ تَأْخُذَنْ يَوْماً عَلَى الدِّينِ أُجْرَةً *** فَذَلِكَ مَا يُفْضِي لِخُسْرٍ وَإِخْلاَلِ
وقال:
وَلِلشِّعْرِ أَوْقَاتٌ يَلِينُ انْقِيَادُهُ وَيَعْسُرُ أُخْرَى لاَ يَدِينُ لِمِقْوَالِ
وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ القَرِيظِ فَعَاذِرٌ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ سَيَنْصُرُ عُذَّالِي
ثانيا: التصوير الفني:
ولا يستعمل شاعرنا التصوير الفني بكثرة في أشعاره ولكنه حين يستعمله يبلغ فيه درجة من الإتقان كبيرة.
من ذلك قوله:
لاَ تَعْذِلاَنِي فَإِنَّ الــعَذْلَ يُغْرِينِي *** وَالْهَجْرُ يَقْتُلُنِي وَالوَصْلُ يُعْيِينِي
وَالوَجْدُ يَنْهَضُ بِي وَالعَجْزُ يُقْعِدُنِي *** وَالشَّوْقُ يُنْشِرُنِي وَاليَأْسُ يَطْوِينِي
وَالدَّمْعُ يَنْصُرُنِي وَالصَّبْرُ يَخْذُلُنِي *** وَالسَّهْدُ يَأْلَفُنِي وَالنَّوْمُ يَجْفُونِي
كَيْفَ اصْطِبَارِي عَلَى رُوحِي تُفَارِقُنِي *** وَأَنْثَنِي وَلَهِيبُ البَيْنِ يَشْوِينِي
وتبقى أشعر تقي الدين محتاجة إلى من يجمعها وينشر ما لم ينشر منها، ويعاد نشر ما قد نفذت طبعاته، وتحتاج هذه الأشعار إلى نقاد ودارسين يسلطون عليها الأضواء خاصة وأن الشيخ خلف تراثا شعريا ضخما أسهم به في إغناء الآداب العالمية.