هل السنة النبوية تعكس واقعا زمنيا مضى فحسب أم أنها وحي مُصلِح لكل زمان ومكان؟

يعتبر العلمانيون أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم تراثا وخطابا لغويا قابلا للنقد وفق العلوم الإنسانية الحديثة، والنظريات الجديدة، كنظرية «موت المؤلف» أو «عزل النص».
ووفق هذا المنهج الغربي في دراسة النصوص الدينية يجب إخضاع نصوص الصحيحين -وغيرها من النصوص الشرعية- لآليات التفكيك والنظريات الألسنية الحديثة.
ولقد رأى بعض العلمانيين ضرورة ذلك، كما أكد محمَّد أركون أنه: «من الملحّ والعاجل -من وجهة نظر التَّاريخ العام للفكر- أن نطبق على دراسة الإسلام المنهجيات والإشكاليات الجديدة، نقصد بذلك تطبيق المنهجيات والآفاق الواسعة للبحث من تاريخية1 وألسنية2 وسيميائية دلالية3 وأنثربولوجية4 وفلسفية»5.
وقال علي حرب: “وكينونة النص تقضي بالنظر إليه من دون إحالته لا إلى مؤلفه ولا إلى الوقع الخارجي6، ولهذا أكّد العلمانيون على ما يُسمى بـ «تراثية» السُّنَّة النَّبويَّة، وفرض التساوي بين أنواع الخطاب؛ فأصبح النَّصّ النبوي عرضة لمناهج الألسنيات الحديثة وتحليل الخطاب التاريخي ونقده، ففي منطق النقد «يستقل النَّصّ عن المؤلف»، وبالتالي تم تفكيك أهم علاقة تربط النَّصّ النبوي بالوحي لتُجرَّد السُّنَّة بعد ذلك من شرعيتها التي منحها إياها الوحي.
ثُمَّ ينتقل هذا المنهج إلى تفكيك النَّصّ النبوي عن الحقيقة، فقد أصبحت هذه الأخيرة هي الأخرى محل نقد لارتباطها بالنَّصّ النبوي.
يقول علي حرب: «فالنَّصّ النبوي، مثلاً، لا تكمن أهميته في كونه يروي الحقيقة أو يتطابق معها، بل تكمن بالدرجة الأولى في حقيقته هو»7.
وهكذا يصبح النَّصّ النبوي نفسه موضع المساءلة ما إذا كان حجة أم لا، فضلاً عن تضمنه رسالةً للبشرية، أو كونه هدى وبشرى للعالمين.
إنَّ هذا المنهج يُذري بالقيم الحضارية والإنسانية التي تضمنتها رسالة خاتم النَّبيّين أدراج الرياح، ويجعل العقل النسبي حاكماً على العقل المطلق الذي باركه الوحي وخوّله مهمة هداية البشرية.
والأخطر من ذلك، أنه يعتقد أن «النص يعكس واقعه المعاصر له فقط، وينتهي بانتهاء زمانه، وأن محاولة إحالته أو ربطه بواقع معين ليست سوى تفسير للنص بنص آخر، أي هي حجب للحجب»8، ومعنى ذلك أن محاولة إسقاط النص النبوي على أي حادثة واقعية وتطبيق حكمه عليها والعمل به في خارج نطاق عصره وزمانه إنما هو تعتيم مبطن، وظلام مضاعف لا يستقيم والمنطلقات المنطقية التي تقتضي حصر النص بما يخصه من الزمان دون غيره، وهو تشكيك صريح بالنصوص النبوية -بعامة- والصحيحين بشكل خاص.
ومعلوم أن التشكيك بالصحيحين تشكيك بالسنة جمعاء، وهو تشكيك في القرآن أيضاً، كما أنه تشكيك في حقيقة الوجود الإنساني، ودعوة إلى العبثية بقوانين الفكر، وتماهٍ للعقلنة التي لا يضبطها ضابط شرعي أو عقلي أو منطقي، فضلاً عن الدخول في التأويلات اللامتناهية، وإشكالية العلاقة بين النص المعطى ولغته، فليس لـ«قصد» المؤلف أو النص مكان في «النظرية التأويلية» الجديدة، باعتبار أن النصوص لا تحمل أي معنى إلا ذلك الذي يصنعه القارئ ويشكله، مما يؤدي إلى «فوضى التفسير» و«لا نهائية المعنى» و«نسف محتوى النص» و«إبطال مقصوده»؛ في ظل الغيبات الثلاثة التي تقوم عليها «التأويلية الحديثة»: (غيبة المؤلف، وغيبة المرجعية، وغيبة القصدية) وبذلك، وحده، يستأثر الحداثيون بتأويل النص الديني، قرآنًا وسنة، ويتلاعبون بفهمه وتفسيره ومدلوله، في «باطنية» مسرفة لا ترى في «ظواهر» النصوص أكثر من رموز ومؤشرات ومدلولات كوامن بواطن، هي مركز الثقل في النص، وبدل أن يكون الهوى تبعًا لمعطيات النص، يكون هو تبعًا لأهوائنا!9.
ولا بد هنا من التساؤل ما إذا كانت آليات تفكيك الخطاب الديني والبشري تتصف بالعلمية، وهل هي مجمع عليها؟
وهل نجحت في نقد الخطاب الديني وقراءته قراءة إيجابية؟
وهل الخطاب الديني بالضرورة معادٍ للحداثة بحيث يحتاج إلى تفكيك وتركيب؟
وهل بالضرورة وضع التراث والحداثة في إطار عدائي لا يتصور الجمع بينهما؟
إن الذي يراجع تطور علم الألسنيات في الغرب ويتأمل في الهرمنيوطيقا التي استخدمت في نقد النصوص الدينية يخلص إلى القول إن النظريات «السيمانتية»10 و«البراغماتية»11 لم تصل بعد إلى مستوى تحليل أي خطاب ديني فضلاً عن نقده أو تفكيكه. فالبعد البراغماتي في اللغة يحرص على بيان علاقة اللفظ باستعماله في زمان ومكان محدد، أي سلطة الزمان والمكان على النص الديني.
بينما في المفهوم الإسلامي، الخطاب الديني المتمثل في القرآن والسنة غير خاضع لهذه السلطة إلا ما تقتضيه متطلبات تنزيل النص على الواقع. ذلك لأن الزمان والمكان مخلوقان بينما خطاب الوحي صفة من أوصاف المخاطِب وهو الله سبحانه وتعالى، وهو متعال عن سلطة الزمان والمكان.
ـــــــــــــــــــــــ
1- التاريخية أو الأرخنة: نقد النصوص الموروثة وإسقاط قدسيتها واخضاعها للواقع دون النظر إلى الآخرة والإيمان.
2- الألسنية: علم تطور اللغات البشرية، وعمليات الاتصال، على خلاف ما كان معهوداً في السابق.
3- السيميائية أوالسيمانتية: علم الدلالة، وهو علم حديث يبحث في الدلالات اللغوية، يدرس المعاني اللغوية على صعيد المفردات والتراكيب، وما يتبعه من تطور لهذه المفردات بعيداً عن الاشتقاقات التاريخية لها.
4- انثروبولوجيا: علم يبحث في مراحل تطور الإنسان، وأصله الخلقي، كما يبحث في تطوره الاجتماعي والثقافي.
5- محمَّد أركون، تاريخية الفكر العربي الإسلامي، ص61.
6- علي حرب، نقد النص، ص12.
7- المرجع السابق، ص14.
8- المرجع السابق، ص13.
9- محمد عبد الفتاح الخطيب، القراءة الحداثية للسنة النبوية، بتصرف.
10- السيميائية أوالسيمانتية: علم الدلالة، وهو علم حديث يبحث في الدلالات اللغوية، يدرس المعاني اللغوية على صعيد المفردات والتراكيب، وما يتبعه من تطور لهذه المفردات بعيداً عن الاشتقاقات التاريخية لها.
11- البراغماتية: هي التركيز على المنفعة المادية والعملية كمكون أساسي للحقيقة، وإهمال المبادئ والفكر الإنساني كدافع للبحث عن الحقيقة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *