نقد موقف ابن رشد في تأويله للشريعة

نقد فكر الفيلسوف ابن رشد الحفيد
على ضوء الشرع والعقل والعلم -دراسة نقدية لكشف حقيقة فكر ابن رشد-

وأما النموذج الأخير -وهو التاسع- فيتعلق بتأويل ابن رشد لآية المحكم والمتشابه، والراسخين في العلم، في قوله تعالى: (هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ) سورة آل عمران 7، فإنه يرى أن الراسخين في العلم هم الذين ذكرهم الله تعالى في هذه الآية، وتوقف عند قوله تعالى: (والراسخون في العلم)، فهم لهم القدرة على ممارسة التأويل الجامع بين ظواهر الشرع المتعارضة، واختار-أي ابن رشد- التوقف عند (والراسخون في العلم)، لأنه (إذا لم يكن أهل العلم يعلمون التأويل، لم يكن عندهم مزية تصديق تُوجب لهم من الإيمان به مالا يُوجد عند غير أهل العلم …).
وقوله هذا غير صحيح في معظمه، لأنه أولا أن الراسخين في العلم الذين ذكرتهم الآية هم العلماء المؤمنون الربانيون على رأسهم الصحابة والتابعين ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين، لأن الصحابة هم الذين تلقوا التفسير ومنهجه عن رسول الله-عليه الصلاة والسلام-، وعنه أخذ من جاء بعدهم من المسلمين، فهم الذين يُمارسون التأويل الشرعي بمعناه الصحيح، وليس أهل التأويل الباطني المشائي الرشدي الذين يزعمون وجود تعارض بين النصوص الشرعية، فيُحرفونها ويُخرجونها عن حقيقتها بتأويلهم التحريفي، ثم يُخفون تأويلاتهم الفاسدة عن أئمة المسلمين وعامتهم، لأنها تخالف النقل الصحيح، والعقل الصريح، وقد اعترف بهذا ابن رشد نفسه، عندما وصف تأويلاتهم بأنها كفرية، من أظهرها منهم فهو كافر.
وثانيا إن دليله الذي احتج به في التوقف عند قوله تعالى (والراسخون في العلم)، ومفاده أنه لو لم يكن أهل العلم يعلمون التأويل لم يكن عندهم مزية تصديق تُوجب لهم من الإيمان ما لا يُوجد عند غير أهل العلم، فهو لا يصح، ولا يُؤدي إلى ما يريد الوصول إليه من ممارسة تأويله التحريفي، فعلى فرض صحة التوقف عند (والراسخون في العلم)، فهم يُمارسون التأويل الشرعي لا التأويل التحريفي الرشدي من جهة، وهم بفضل علمهم أدركوا وتبينوا وعلموا أن الإحاطة بذلك التأويل ومعرفته على حقيقته النهائية، هو أمر لا يعلمه إلا الله تعالى من جهة ثانية، فسلّموا وخضعوا وأخبتوا وقالوا: (كل من عند ربنا)، وبهذا الفهم لهم مزية التصديق والتسليم عن علم وإدراك، وأما غيرهم من عامة الناس فتسليمهم عن عجز بلا علم، فشتان بين الموقفين!!.
وثالثا إن الآية لا يكتمل معناها إلا إذا أتممناها بقوله تعالى: (يقولون آمنا به كل من عند ربنا) فسواء توقفنا عند (إلا الله)، أو (والراسخون في العلم)، فعلى الحالتين أن الراسخين في العلم هم الذين يقولون: (آمنا به كل من عند ربنا)، وهذا تسليم وإقرار منهم بالخضوع والاستسلام لله تعالى، وعدم قدرتهم على الإحاطة بتأويل المتشابه، وسواء تمّ ذلك ببحث وتدبر وتفكر، أو تمّ بتسليم مباشر، فالنتيجة واحدة، مما يعني أن الراسخين في العلم ليسوا كما زعم ابن رشد، بأنهم يعلمون تأويل المتشابه على طريقته التحريفية، التي تزعم أن التأويل مخالف لظاهر الشرع ويجب إخفاؤه، فالآية على أي وجه أخذنا به لا تعني ما ادعاه ابن رشد.
ورابعا إن مما يزيد رأي ابن رشد ضعفا واستبعادا وإبطالا، أن التأويل الرشدي هو عملية تحريفية مخالفة للشرع واللغة معا، لا يليق بالراسخين في العلم ممارستها، وهم الذين مدحهم الله تعالى بالتسليم والخضوع والاستسلام، فهم أهل إيمان وتقوى، وعلم ويقين، فلو كانوا مؤولين على الطريقة الرشدية التحريفية ما كانوا من الراسخين في العلم، وما مدحهم الله تعالى، وما وصفهم بأنهم قالوا: (آمنا به كل من عند ربنا)، وبما أنه وصفهم بذلك فهم على الطريقة التأويلية الشرعية، وليسوا على الطريقة التأويلية المشائية الرشدية التحريفية المزعومة، التي تجعل المؤوّل مضطربا قلقا، محرفا للشرع، يُخفي تأويلاته عن الناس، مخافة الإطلاع عليها فينكشف أمره، لأنها مخالفة للشرع والعقل معا، فيصدق عليه وصف الله تعالى بأنه من الذين في قلوبهم زيغ: (وأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *