وقفات مع كتاب «الدين والسياسة تمييز لا فصل» للدكتور سعد الدين العثماني*

د.العجيري: التصور الذي يطرحه الدكتور العثماني لعلاقة الديني بالسياسي يتقاطع بشكل كبير مع كثير من الأطروحات العلمانية

كتاب «الدين والسياسة تمييز لا فصل» هو واحد من الكتب المهمة في الساحة الشرعية السياسية، التي حاول من خلالها مؤلفها تقديم وجهة نظر شرعية أصولية لسؤال العلاقة بين الدين والسياسة، ويمتاز الكتاب بلغته السهلة والواضحة والمباشرة، مما يوسع من دائرة انتشاره وسهولة تناول أفكاره.
والكتاب عبارة عن خمسة مقالات سبق وأن تم نشرها في الصحافة وعلى شبكة الإنترنت، إضافة إلى مقالة زائدة قدَّمها المؤلف لقرائه في خاتمة الكتاب، والكتاب من تأليف الدكتور سعد الدين العثماني والذي يحتل عدداً من المواقع السياسية في المشهد المغربي فهو الأمين السابق لحزب العدالة والتنمية المغربي سابقاً، ورئيس المجلس الوطني لحزب العدالة والتنمية حالياً، ونائب رئيس مجلس النواب للولاية التشريعية، وأخيرا (وزير الشؤون الخارجية والتعاون) قبل التعديل الحكومي الأخير.
والدكتور متخصص في الطب النفسي، إضافةً إلى حصوله على عدد من الشهادات في مجال علوم الشريعة، والكتاب بأفكاره يمثل مسألة شديدة الحضور في خطاب الدكتور العثماني، فقد حصل على درجة الماجستير في أصول الفقه ببحث(تصرفات الرسول صلى الله عليه بالإمامة وتطبيقاتها الأصولية)، وله بحث منشور بعنوان (تصرفات الرسول بالإمامة: الدلالات المنهجية والتشريعية) إضافة إلى عدد من المحاضرات والندوات وبعض المشاركات الفضائية التي تصب جميعاً في هذه المسألة.
الكتاب وأفكاره جديرة بمناقشة مفصلة خصوصاً وأن كثيراً منها يراد أن يكون موضع التفعيل في الساحة السياسية مع التغيرات التي هبت على الوطن العربي بثوراته الأخيرة، وهذه بعض الملاحظات المختصرة على شيء مما اشتمل عليه الكتاب من ملاحظات:
العلمانية بمفاهيم أصولية:
أخطر ما في الكتاب أنه يجسر الهوة بين الإسلام والعلمانية، ويفتح الباب لقارع العلمانية للولوج للحياة السياسية بوجه شرعي، ويقدم الغطاء الشرعي الأصولي اللازم للخطاب العلماني، ففي علاقة الدين بالسياسة مستويان من الشريعة الملزمة:
– القيم العامة مثل العدل، الصدق، الوفاء.. الخ.
– والأحكام الجزئية التفصيلية مثل إقامة الصلاة، تحريم الربا، إقامة الحدود.. الخ.
الدكتور العثماني واعٍ تماماً لحالة التقارب هذه مع الحالة العلمانية، ويكاد يقول صراحة أن فكرته متطابقة مع بعض تجليات العلمانية الناعمة
فعلى مستوى القيم الإسلامية العامة لا توجد مشكلة حقيقية لدى أكثر العلمانيين معها، بل هم يؤكدون دوماً على عظمة الجوهر الأخلاقي في الإسلام، وإنما أزمة العلمانية مع الإسلام غالباً ما تكون على مستوى إلزامية الأحكام الجزئية على المستوى التشريعي والقانوني، فهل هذه التشريعات ملزمة للسياسي؟ أم هي أحكام تاريخية مربوطة بظروفها المكانية والزمانية؟ أم هي مرتهنة بالمصلحة تتحرك وفقها بحسب ما يراه السياسي؟
فالعلمانيون يدعون إلى رفع الإلزامية التشريعية القانونية للأحكام القرآنية والنبوية، وهو حقيقة مفهوم (فصل الدين عن الدولة)، بخلاف «الإسلاميين» الذين يرون وجوب هيمنة الأحكام الشرعية على النظام السياسي، وأن هذه الأحكام لها صفة الإلزامية التي يجب على الدولة رعايتها، والإلزام بها في الواقع. فما ورد به النص من شأن السياسة فهو في دائرة الملزم شرعاً، وما لم يرد به النص فهو مجال اجتهاد السياسي المرهون بالمصلحة المعتبرة، فالتصرف على الرعية منوط بالمصلحة.
هذا التمهيد ضروري جدًّا لمعرفة موقع الدكتور سعد الدين العثماني من هذه القضايا، فأما على:
– مستوى القيم الدينية العامة فالدكتور يصرح بأن (الدين حاضر في السياسة كمبادئ موجهة، وروح دافقة دافعة، وقوة للأمة جامعة، لكن الممارسة السياسية مستقلة عن أي سلطة باسم الدين أو سلطة دينية) ص32، وكرَّر العبارة نفسها ص113.
– أما على مستوى الأحكام الشرعية التفصيلية المتعلقة بالمجال السياسي فهي عند الدكتور خارج دائرة الإلزام فهو يقول: (ومن جهة أولى لا يمكن بأي حال من الأحوال فرض قانون على المجتمع. وإذا كان الإسلام يقرر أن {لا إكراه في الدين}، والذي يعني أن الإيمان نفسه لا يجوز إكراه أي كان عليه، فمن باب أولى أن ينطبق الأمر على ما دون الإيمان في شعائر الإيمان وشرائعه.
ومن جهة ثانية فإن إيمان المؤمن بوجوب أمر ديني عليه لا يعطيه الحق بفرضه على الآخرين، فهو مكلف به ديناً. وذلك لا يكفي لجعله قانوناً عامًّا في المجتمع، بل عليه أن يحاول إقناع الآخرين به حتى يتبناه المجتمع بالطرق الديمقراطية، فلا يمكن أن تعطى سلطة أو يعطى حاكم حق فرض أحكام على الناس بأي مسمى كان) ص40.
ويقول متحدثاً عن مهمة الدولة: (ليس من مهمة الدولة أو أي جهة سياسية التدخل في شؤون اعتقاد الناس، وفرض تصورات أو اجتهادات دينية معينة عليهم، بل مهمتها تدبير الشأن العام في إطار نظام القيم العامة للمجتمع) ص41.
فدائرة الفرض والإلزام متعلقة بدائرة القيم العامة دون التفاصيل التشريعية، وإنما تدخل هذه حيز الإلزام بالإرادة الشعبية، وفق آليات الديمقراطية التي يقع عليها توافق اجتماعي.
هذا التصور الذي طرحه الدكتور لعلاقة الديني بالسياسي يتقاطع بشكل كبير مع كثير من الأطروحات العلمانية، الأمر الذي لفت نظر بعض الكتاب حتى وصفه أحدهم بأنه يقدم العلمانية بمفاهيم أصولية، ووصفه آخر بأنه إسلامي ونصف علماني.
ومما يؤكد حالات الالتباس بين تقريرات الدكتور سعد والتقريرات العلمانية ما جرى في إحدى ندوات الدكتور والتي تحدث فيها عن نظرية (التمييز بين الديني والدنيوي) فبعد أن فرغ الدكتور من محاضرته سئل السؤال التالي:
«ما هو الخط الفاصل أو الخيط الرفيع الذي يفصل ما بين التطبيق العلماني للدولة والتطبيق الإسلامي في إدارة الدولة، كثير من الأشخاص الذين قد يستمعون للمحاضرة قد يلتبس عليهم هذا الخيط، أرجو توضيحه مشكورا».
والحق أن هذا السؤال معبر بشكل كبير عن حالة التداخل بين (نظرية التمييز) ونظرية (الفصل العلماني) وفيه قدر من الطرافة إذ السؤال يتنازعه أمران:
– مشكلة الأطروحة والتي تقترب كثيرا من التصور العلماني.
– وحسن الظن بصاحبها والذي ينتسب للعمل الإسلامي.
فحقيقة ما يقول السؤال -بوعي من سائله أو من غير وعي-: كلامك هو كلام العلمانيين، لكنك إسلامي ولست منهم، فما الفرق بين كلامك وكلام العلمانيين؟
وكأن السائل لحسن ظنه يتصور ضرورة وجود فرق بين تصور الدكتور هنا والتصور العلماني.
فكيف كان جواب الدكتور؟
قال: (هناك خط فاصل بين التطبيق العلماني والإسلامي؟ شوف أنا دائما أنتقد لفظ العلمانية، استعمال لفظ العلمانية بإطلاق، لأنه في الحقيقة ليس هناك علمانية، هناك علمانيات، علمانيات متعددة، العلمانية الفرنسية ليست هي العلمانية الأجلوسكسونية وخصوصا في بريطانيا، وليست هي العلمانية الموجودة في أمريكا، وليست هي شكل العلمانية الموجودة في الدول الإسكندنافية، وبين الدول الإسكندنافية فوارق، النرويج والدنمارك شكل والسويد شكل، إذن هناك أنواع. هناك علمانية معادية للدين أو مهمشة للدين، هناك علمانيات فيها موقع معين للدين أو لمرجعية دينية، وبالتالي أنا أظن أنه يجب ألا نقع في هذا المأزق، لا يهمني أن يشبهني أو أشبه، المهم ما هو المراد من المقصود الشرعي، هذا هو المهم، هل هذا موجود أو غير موجود في الدين، يعني شرعا، فإذا كان موجودا شرعا فليسمه الآخر علمانية أو ما شاء، وإذا كان غير موجود شرعا، فهو ولو سماه الآخرون دينا فهو مرفوض، إذا أظن أنه يجب ألا ندخل هذا المأزق التقابلي مع العلمانية، على أساس أن العلمانية هي نفسها فسيفساء من الأشكال ومن الأنماط لا في التفكير ولا في التطبيق السياسي).
فالدكتور واعٍ تماماً لحالة التقارب هذه مع الحالة العلمانية، ويكاد يقول صراحة أن فكرته متطابقة مع بعض تجليات العلمانية الناعمة، وهو ما أوضحه بشكل أكبر في مناسبات أخرى، فقال في أحد حواراته: (هُناك علمانية أقرب ما تكون إلى التصور الإسلامي).
بل قال في أحد مناظراته التلفزيونية ما هو أصرح في بيان حالة التقارب هذه:
(أقول: إن العلمانية ليست شيئاً واحداً، هناك علمانية متطرفة ضد الدين تريد إقصاءه فعلاً من الحياة، بحيث يصبح ممارسة معزولة في كنيسة أو في مسجد، هذا نموذج معين من العلمانية، وهناك العلمانية التي تعني تسيير المجالات الدنيوية انطلاقاً من الموضوعية والبراغماتية، وهذا النوع له وجود معين في الإسلام، فالرسول صلى الله عليه وسلم جاء إلى المدينة، ووجد سكانها يلقحون النخل فقال: (لو تركتموه لأثمر) فتركوه، فلم يثمر، فلما جاؤوه وحكوا له الأمر قال: (ما كان في أمر دينكم فإليَّ، وما كان من أمر دنياكم فشأنكم). فميَّز بين مجالين، وهذا فكر موجود في الإسلام، وبهذا النص وبنصوص أخرى على أساس أن المجال الدنيوي بناء على هذا التعريف يجب أن يكون مبنيًّا على الاجتهاد البشري، وعلى الفكر اختيار أحسن وأفضل الوسائل لتنظيمه واستثماره واستفادة الإنسان منه على أساس معقلن، إذ كانت العلمانية تعني كل هذا في إطار المرجعية الإسلامية العامة التي هي الإطار العام المنظم، فهذا الإطار المرجعية الإسلامية العامة، التي هي الإطار العام المنظم، فهذا الإطار المرجعي الإسلامي العام هو الذي يجعل هذا المجتمع في نظامه مسلماً، هذا هو الإطار العام وداخله المجالات الدنيوية بأقصى درجات الاجتهاد والعقلانية والابتكار والفكر).
يتبع في العدد القادم بحول الله..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
أنظر: ينبوع الغواية الفكرية.. «غلبة المزاج الليبرالي.. وأثره في تشكيل الفكر والتصورات»؛ د.عبد الله العجيري؛ إصدار مركز البيان للبحوث والدراسات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *