< فصل
في أن القصد الثاني في طلب الشارع تعلم العلم إنما هو حاصل بالتبع للقصد الأصلي الأول الذي تقدم ذكره. وفي بيان المراد بهذا التابع قال الناظم:
والتابعي القصد للتشريـف ولاكتساب المنصب المنيف
والبر والتعظيم عند الخلق وحمله على التقى والصـدق
«و» القصد «التابعي» للقصد الأول، وقوله «التابعي» بياء النسب، لعل وجهه: أنه -التابعي- هو من قامت به صفة التبع، كما يقال صحابي في من اتصف بصحبته صلى الله عليه وسلم، ومثله التابعي في من أتى بعد جيل الصحابة، هو «القصد» من طلب هذا العلم لتحصيله وإدراكه «للتشريف» والتعظيم من الخلق، فصاحب العلم شريف وإن لم يكن في أصله كذلك، «و» كذلك يطلب على الوجه المذكور «لاكتساب» وإدراك «المنصب» يعني المقام، والمنصب لغة الأصل والمرجع والمنبت، «المنيف» أي العالي المرتفع، فبالعلم تدرك المقامات السامية بين الخلق، والواقع يشهد على هذا الامر، فلا حاجة إلى التدليل عليه.
«و» كذلك يطلب لتحصيل «البر» والإحسان من الناس، «و» كذلك «التعظيم عند الخلق» فإن تعظيم العالم واجب على جميع المكلفين، إذ قام مقام النبي «و» يطلب العلم -أيضا- على هذا الوجه لـ«حمله» صاحبه «على التقى» المدرك بامتثال الأوامر واجتناب النواهي.
وعدّ الناظم طلب التقوى بتعلم العلم مما يقصد من ذلك التعلم تبعا وبالقصد الثاني غير بين، لأن التقوى من أجل الأعمال المطلوبة شرعا والعبادات، فكيف يعد طلبها بتعلم العلم مما يطلب تبعا وبالعرض والقصد الثاني؟ فكل علم تطلب به عبادة وعمل مطلوب شرعا فإنه علم شرعي، سواء كان مما أخذ من النصوص الشرعية أو مما ثبت في الخلق من الآيات؛ والصحيح عد التقوى مما يطلب شرعا بالقصد الأول الأصلي في تعلم العلم الشرعي. «و» على «الصدق» في الأقوال والأفعال، وهذا أيضا مثل التقوى فطلبه بالقصد الأول، لأنه عبادة. فالصدق مما تعبدنا سبحانه به.
إلى سوى ذاك من المآثر والرتب السامية المظاهر
ومـع ذا فـإن فـي العلـوم لذة الاستيلا على المعلوم
«إلى سوى ذاك» الذي ذكر من «المآثر» جمع مأثرة -بفتح التاء وضمها- أي المكرمة، وسميت مآثر لأنها تؤثر، أي تذكر ويأثرها قرن عن قرن يتحدثون بها، و«الرتب» جمع رتبة وهي الدرجة «السامية» العالية في واقع الأمر؛ وفي النفوس «المظاهر» يعني مظاهرها، أي ما يظهر منها للخلق.
«ومع» كل هـ«ذا» الذي ذكر من المآثر والمناقب الحميدة «فـ» يزاد عليه فائدة أخرى وهي «ان في العلوم» المحصلة في النفس والمكتسبة بالطلب، وفي تعلم الأشياء والعلم بها «لذة» خاصة وهي لذة «الاستيلا على المعلوم» والحوز له.
قال الزمخشري:
سهري لتحصيل العلوم ألذ لـي مـن لثـم جـاريـة وطـول عنــاق
وصرير أقلامي على أوراقهـا أحلـى مـن المـايــات والعـشــاق
وألـذ مـن نقـر الفتـاة بعــودهـا نقري لنفض الرمل عن أوراقـي
وتمـايلي طربـا لحـل عويصـة أشـهــى إلـي مـن مــدامــة ســاق
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وذاك فـيـه راحـة القــلـــوب وظفر النفوس بالمطـلـوب
فإن يكـن ذا خادمـا لأصلــي صـح ابتـداء قصده بالنقـل
وغير ما يخدمه القصد ابتـدا إليـه ممـنـوع بنـهـي وردا
كالقصـد بالعلـم دنـيـا أو رئـا أو لثناء أو مراء من رأى
«وذاك» الاستيلاء على المطلوب وحوزه «فيه راحة القلوب» الراغبة فيه الطالبة له على حرقة «وظفر» أي فوز «النفوس» العطشى للعلم «بالمطلوب» المتعطش إليه.
«فإن يكن ذا» المكتسب المعلوم على هذا الوجه «خادما لأصلي» أي مقصد أصلي في محله وذكره باعتبار أنه نوع من جنس المقصد الأصلي وهو العمل والتعبد، «صح» بل قد يلزم «ابتداء» طلبه و«قصده» وهذا ثابت استقلالا من دون أن يأتي تابعا «بالنقل» يعني بالأدلة النقلية التي منها قوله تعالى: {ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما} وقوله سبحانه: {واجعل لي لسان صدق في الآخرين} ومنها قول عمر لابنه حيث وقع في نفسه أن الشجرة التي هي مثل المؤمن هي النخلة: «لأن تكون قلتها أحب إلي من كذا وكذا»، وغير ذلك من الأدلة الواردة في هذا الشأن.
«و» أما «غير ما يخدمه» أي يخدم هذا القصد الأصلي من طلب العلم -وهو العمل والتعبد- «القصد ابتدا» واستقلالا «إليه» يعني إلى طلبه وتعلمه «ممنوع» باطل وذلك ثابت «بنهي» شرعي «وردا» في نصوص شرعية.
ثم بين هذا الضرب الممنوع من المقاصد، فقال: «كالقصد بـ» تعلم «العلم» لكسب «دنيا» وملذاتها «أو رئا» (رياء) وهو أن يقصد بالعمل غير وجه الله، «أو لثناء» من الناس أو مدح «أو مراء» أو جدال «من رأى» من صادف من الخلق، وأبصره. فهذا كله منهي عنه شرعا بشدة، ففي الحديث: «لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء، ولا لتماروا به السفهاء، ولا لتحتازوا به المجالس، فمن فعل ذلك فالنار النار»، وفيه أيضا: «من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به غرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة»، وفي القرآن الكريم: {إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما ياكلون في بطونهم إلا النار} وغير ذلك من الأدلة الواردة في هذا الشأن.
وما يرى مظنة للعمل في أصله فلاحق بالأول
ثم ذكر الناظم ما لا يتمحض ليكون مما اندرج في جزئيات القصد الأصلي، إلا أنه مظنة للعمل فقال «وما» من العلم «يرى» يظن أنه «مظنة للعمل» والانتفاع عند وجود محله «في أصله» إذ هو لا يفيد غير ذلك، ولم يوضع إلا له، كالعلم بفروع الشريعة والعوارض الطارئة في التكليف إذا فرض أنها لم تفرض في واقع الأمر، فان العلم بها حسن، وصاحب العلم بها مثاب عليه، كما أن في تحصيل الطهارة للصلاة فضيلة، وإن لم يأتِ وقت الصلاة بعد؛ فما كان على هذه الصورة من العلم «فـ» إنه «لاحق بالأول» أي بما يطلب بالقصد الأول ولا يخرجه عن ذلك كونه وسيلة.
يتبع..