في عددها الصادر في فاتح أكتوبر 2014 خصصت الجريدة الفرنسية (Le Petit Quotidien) موضوع غلافها لما أسمته: «فهم الحرب ضد الجهاديين» (comprendre la guerre contre les djihadistes).
ولتبرير الحرب ضد ما يسمى بـ «داعش»؛ عملت اليومية التي تستهدف الأطفال، وبالضبط التلاميذ المتمدرسين بين سن السادسة والتاسعة (6-9)، على تمرير مجموعة من المفاهيم الخاطئة والقناعات المضللة؛ التي ترسخ لدى الأطفال الفرنسيين رؤية مشوهة للإسلام (عقيدة وشريعة).
وهاته الرؤية هي رؤية مؤسسة ابتداء على منظومة من الفلسفات المادية الإلحادية التي تؤله الإنسان وتؤنسن الإله؛ ثم على تاريخ طويل عريض من العداء الصليبي المتجذر في العقلية الغربية إلى اليوم.
وقد صدَّرت (Le Petit Quotidien) غلافها بالتعريف بثلاث كلمات اعتبرتها أساسية؛ وهي: الإسلامي، والإرهابي، والجهادي.
حيث عرفت «الإسلامي» بـ: «المسلم الذي يريد أن يفرض على الجميع قواعد صارمة للغاية؛ ناتجة عن طريقته في فهم القرآن، الكتاب المقدس للمسلمين. ومن أمثلة هذه القواعد الصارمة: حظر الاستماع إلى الموسيقى، ووجوب تغطية المرأة بلباس أسود وألا تخرج إلا برفقة رجل، وفرض الصلاة على الجميع».
وظاهر من خلال هذا الطرح التحامل الكبير، والبعد عن الموضوعية والإنصاف، والتوظيف الإيديولوجي لتلويث فطرة الأطفال الأبرياء، والسعي بكل الوسائل والطرق إلى جعلهم أعداء لرسالة جعلها الله تعالى خاتمة الرسالات وحجة الله على خلقه.
ذلك أنه لا وجود لكلمة إسلامي إلا في قاموس العلمانيين وأساتذتهم الأولين (الغربيين)، الذين يفرقون عمدا بين عموم المسلمين ومن يسعى منهم إلى إرجاع العمل بشرع الله تعالى في كل المجالات؛ فهاته الفئة التي تقاوم التغريب وترفض التماهي مع الأطروحة العلمانية، يتم التشغيب عليها من طرف هذا الفصيل الاستئصالي بمثل هاته المصطلحات؛ وكثير من الشبهات؛ من قبيل أن الإسلاميين يفرضون الصلاة على جميع الناس!!
فالصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام؛ وفرضها جاء بالقرآن والسنة والإجماع؛ وليس وفق (قواعد صارمة) أو (فهم معين) لإسلامي أو جهادي أو إرهابي أو أي مسمى آخر، وتحريم المعازف ورد أيضا في القرآن والسنة والإجماع، وقد نص الأئمة الأربعة على تحريمها، أما إلزام المرأة باللباس الأسود ومنعها من قضاء حوائجها إلا برفقة رجل، فمجازفة ومكابرة؛ ولم يسبق لي شخصيا أن وقفت على هذا الحكم أو طالعت هاته الفتوى!
والأصل -كما هو مشهور- في ألوان اللباس الذي يلبسه الرجال والنساء على السواء الإباحة إلا إذا ورد النص الشرعي بالنهي عن لون معين بالنسبة للرجل أو المرأة، وقد نصت اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء في الحجاز؛ وهي هيئة لطالما اتهمت من طرف المنابر الغربية والعلمانية بالغلو والتطرف وإقصاء المرأة؛ أنه «يجوز للنساء لبس السواد وغيره مما ليس فيه تشبه بالرجال، وأما قول عائشة رضي الله عنها: (كأن على رؤوسهن الغربان) فهو ثناء منها على النساء المسلمات، بامتثالهن أمر الحجاب..».
ولا تكاد عين القارئ تخطئ الطريقة الملتوية التي يتم بواسطتها تمرير كثير من المغالطات؛ ولنا أن نتخيل مثلا وقْع نقل تحريم الموسيقى بهذه الطريقة على طفل عاش حياته ومنذ نعومة أظفاره على إيقاعاتها؛ وأشرب قواعدها في مقررات التعليم، وعُظّْم لديه دورها وأهميتها في تهذيب الذوق والجمال وو…؛ فالأمر المتوقع والنتيجة الحتمية أن هؤلاء الأطفال سيعتبرون أن الإسلام يقمع الحريات ويكبت الطاقات ويقف ضد كل شيء جميل في هذه الحياة!!!
فالإنسان إذا اعتاد سماع الموسيقى بأنواعها؛ وألِفَ مثل هاته المعاصي والمخالفات يصعُب فطامه؛ إلا إذا تمكن حب الله ورسوله من قلبه؛ فإنه حينئذ يقدم محابَّه على محابِّه؛ وأوامره على شهواته، أما الأطفال فغالبا ما يتم توجيههم وفق رغبة الوالدين؛ مصداقا لقول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: »ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه؛ كما تُنتَج البهيمةُ بهيمةً جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟« ومعناه أن البهيمة تلد البهيمة كاملة الأعضاء لا نقص فيها، وإنما يحدث فيها الجدع والنقص بعد ولادتها .
وفي الغلاف نفسه ومن خلال لغة الصورة هذه المرة تم ربط اللحية وطولها بالتطرف والإرهاب والبنادق والرشاشات، والحلق بالوسطية والاعتدال؛ ليحفر في ذاكرة الطفل الفرنسي أو العربي أو غيرهما من الذين يتم استهدافهم من خلال الجريدة المذكورة أن كل ملتح وكل مسلم ذي لحية طويلة بالذات هو شخص متطرف وإرهابي..؛ وهذا تصرف خسيس بعيد كل البعد عن الحقيقة والحياد والموضوعية والإنصاف.
فقبل أن تتغنى فرنسا ومنابرها الإعلامية بالحريات وتنصب نفسها للدفاع عنها وتجعل شعارها: (الحرية والمساواة والأخوة)؛ عليها أن تكاشف مواطنيها بالحقيقة، وتخبرهم أنها تتدخل في ملفات الشرق الأوسط والعراق والشام لتحافظ على مصالحها الاستراتيجية؛ وتضمن نصيبها من النفط والغاز؛ وتقصي كل دين أو فكر يهدد المركزية الغربية ويحول دون تعميم النموذج الغربي للحياة؛ ونظرته للكون والإنسان.
فالتاريخ الدموي لفرنسا لا يخول لها إطلاقا أن تتحدث عن حقوق الانسان؛ وتلقن الشعوب والأمم دروسا في هذا المجال؛ لأن ما اقترفته جيوشها في المغرب والجزائر فقط من مذابح جماعية ومجازر وحز للرؤوس لا يمكن مقارنته بتاتا بما تفعله «داعش» اليوم، ولازالت فرنسا وإلى اليوم تمتص دماء شعوب كثيرة؛ وتتحكم في نظامها الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي؛ وتحول دون نهضتها.
هذا، وخشية للإطالة فقط؛ أحب أن أشير في الختام أن ما حاولت جريدة (Le Petit Quotidien) أن تضلل به الأطفال الفرنسيين؛ هو نفسه ما تقوم به منابر يقال إنها «وطنية»!!! من قبيل «الأحداث» و«الصباح» و«Telquel»، لا من حيث الشبه المعروضة فقط بل طريقة العرض أيضا؛ والفارق الوحيد بين هاته المنابر هو أن الأولى تكتب بلغة موليير والثانية بلغة «الضاد».