شرح منظومة العلامة القاضي محمد أبي بكر القيسي الغرناطي التي سماها «نيل المنى في نظم الموافقات» للإمام الشاطبي -رحمه الله- الشيخ مولود السريري

 

كتاب الأحكام

وهي بمقتضى الخطاب الشرعي             قسمان للتكليـف أو للوضـع

خطاب التكليف:

فـمــا بــه الـتـكـلـيـــف لـلأنــــام             منحصر في خمسة الأحكام

وفيها مسائل، المسألة الأولى:

أن الـمـبـــاح تـركــه كـفـعــلـــه             ليس بمطلوب بحكم أصـلـه

«كتاب الأحكام» الشرعية، وأحدها حكم؛ وهو «خطاب الله تعالى المتعلق بفعل المكلف من حيث إنه مكلف»:

«وهي» أي هذه الأحكام «بمقتضى» التكليف حال «الخطاب الشرعي» المذكور «قسمان» الأول: الأحكام التي «للتكليف» ويطلق عليها الأحكام التكليفية، والخطاب الدال عليها يسمى خطاب التكليف، «أو» بمعنى الواو لا يعني الثاني: الأحكام التي للوضع، وتسمى الأحكام الوضعية، والخطاب الدال عليها يسمى خطاب الوضع؛ وبيان ذلك يأتي مفصلا.

«خطاب التكليف»: «فما» أي فالخطاب الذي «به» يقع «التكليف» ويحصل -والتكليف: الإلزام بما فيه كلفة- «للأنام» أي المكلفين «منحصر في خمسة الأحكام»، وهي الواجب، والمندوب والحرام والمكروه والمباح. وبعضهم زاد عليها خلاف الأولى؛ وبعضهم العفو. والمشهور الذي عليه جماهير علماء المسلمين أنها خمسة الأولى.

«وفيها» يعني في بيانها وكشفها تذكر «مسائل» يفضي العلم بها إلى ذلك.

«المسألة الأولى» من تلك المسائل هي: «أن المباح» من حيث مباح -من غير اعتبار ما قد يعرض فيه من أحكام أخرى- «تركه كفعله» فليس بينهما تفاوت في نظر الشارع، إذ «ليس بمطلوب» فعله ولا تركه، وذلك «بحكم» أي بمقتضى «أصله» الذي هو أن المباح هو المخير فيه بين الفعل والترك من غير مدح ولا ذم، لا على الفعل ولا على الترك.

بل هو موكـول إلى المكـلــف       كالشأن في مكفرات الحلف

أو لازم ما ليس في استطاعه        من كونه معصيـة وطـاعـه

ومع ذا لو كان شرعـا يطلـب        لعـد طـاعــة بهـا التـقـــرب

فكـان لازمـا علـى الإطــلاق        نـذرا ومـا يـلـزم باتـــفـــاق

«بل هو موكول» أي مسند أمره «إلى المكلف» فإن شاء أن يفعله فعله، وإن شاء أن يتركه تركه «كالشأن» أي يعني الحكم الذي ورد «في مكفرات الحلف» اليمين، وهو الاختيار بين الإطعام والكسوة وتحرير الرقبة.

«أو لازم» يعني أنه إن لم يكن المباح موكولا إلى اختيار المكلف مع تحقق كونه مستوي الطرفين: الفعل والترك شرعا، فإنه يرد هنا لازم، وهو فعل «ما ليس في استطاعة» المكلف فعله ولا هو معقول في ذاته، وهذا اللازم الدال على استحالة آت «من كونه» إن قلنا إنه مطلوب الترك «معصية» وإن قلنا إنه مطلوب الفعل «طاعة» فيكون من فعله مطيعا بفعله، ومن تركه مطيعا بتركه من حيث كانا مستويين بالنسبة إليه، وهذا غير صحيح باتفاق، ولا معقول في نفسه.

«و» يزاد «مع ذا» هذا الدليل دليل آخر وهو أنه «لو كان» المباح «شرعا يطلب لعد طاعة» يكون «بها التقرب» لله رب العالمين.

«فكان» أي فصار «لازما» واجبا شرعا «على الإطلاق» إذا كان «نذرا» سواء نذر فعله أو تركه «وما يلزم» أي ليس يجب شرعا «باتفاق» أي بإجماع المسلمين. فناذر ترك المباح لا يلزمه الوفاء بنذره، وهو ترك ذلك المباح، وأنه كناذر فعله، وفي الحديث: «من نذر أن يطيع الله فليطعه» فلو كان المباح طاعة للزم بالنذر، لكنه غير لازم، فدل على أنه ليس بطاعة.

فـصــل

وما رأى الكعبي في شأن الطلب             للفعل مردود بترك ما وجـب

ولا يـقـال التـرك بــاب الـزهـــد             والزهد مطلوب بحكم القصد

ذهب الكعبي عبد الله بن أحمد البلخي الخراساني، أحد أئمة الاعتزال إلى أن كل مباح عند النظر إليه بانفراد يظهر بأنه واجب باعتبار أنه ترك به الحرام؛ وباعتبار أنه حسن، وباعتبار أنه من أضداد الحرام. والأصوليون على رد هذا الرأي متفقون.

قال الناظم: «وما رأى الكعبي» وذهب إليه «في شأن» شمول «الطلب للفعل» المباح بناء على أن كل مباح به يحصل ترك الحرام، وترك الحرام واجب فيكون كل مباح واجبا إذن رأي «مردود» وغير مقبول، وذلك لما يفضي إليه ذلك من القول «بـ» جواز «ترك ما وجب» بناء على أن المباح يجوز تركه، فلو كان واجبا لكان ترك الواجب جائزا، وهذا باطل بالاتفاق.

«ولا» يصح أن «يقال: الترك» للملذات والشهوات هو «باب الزهد» الذي هو من الرغبة والحرص على الدنيا «والزهد مطلوب» شرعا «بحكم» ومقتضى «القصد» إليه، وإتيانه بنية التقرب به إلى الله سبحانه، وإنما لا يصح هذا ولا يجري حكمه.

فإنـه مـعــارض بمـا سـلــف                  من فعله عن الرسول والسلف

والزهد أن ينظر لحكم أصله                  تــرك المـبــاح جـائــز لمثـلـه

ومـع ذا الكــلام إنـمــا وقــع                  في مطلق المباح حيث ما وقع

لا فـي الذي تدخـلـه سوابــق                  ولا قــرائـــن ولا لـــواحـــــق

«فإنه» -الفاء تعليلية- أي لأنه «معارض بما سلف» ذكره يشير إلى ما ذكره صاحب الموافقات وتركه الناظم اختصارا «من فعله» أي المباح وإتيانه المنقول «عن الرسول» صلى الله عليه وسلم فقد كان صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل ويأكل اللحم، ويختص بالذراع، وكانت تعجبه، وكان يستعذب له الماء، وينقع له التمر والزبيب، ويتطيب بالمسك، ويحب النساء «و» كذاك عن «السلف» الصالح من الصحابة والتابعين والعلماء المتقين.

«و» يزاد على هذا أن «الزهد أن ينظر لحكم» ومقتضى «أصله» وحقيقته التي هي الرغبة عن ملذات الدنيا، يلفى أنه ما هو إلا «ترك» الفعل «المباح جائز» فعله وتركه «لـ» مباح آخر «مثله» فالإمساك الانكفاف عن الملذات المباحة أمر مباح جائز فعله وتركه.

«ومع ذا» كله «الكلام» في أصل هذه المسألة «إنما وقع» وسيق «في مطلق المباح» أي في ما يطلق عليه لفظ المباح من حيث هو مباح متساوي الطرفين.

«لا» أن كلامنا «في» المباح «الذي تدخله سوابق» كالمال إذا سبق جمعه قصد محرم -هذا ما ظهر لي مثالا والله أعلم- «ولا» في الذي تصحبه «قرائن» يعني أمورا مقارنة له كالخيل إذا ربطها صاحبها تعففا، ولكنه نسي حق الله في رقابها؛ «ولا» في الذي تلحقه «لواحق» كالمال إذا لم تؤد زكاته. فهذا كله ليس الكلام فيه -هنا- لأنه ليس من المباح المتساوي الطرفين، إذ قد ورد عليه ما يخرجه عن ذلك من الأمور المذكورة، فصار غير مباح من تلك الجهة.

وإن أتى ما يقتضي معنى الطلب             لفعل أو ترك فتفصيل وجب

وهـو مـبــاح منـه مـا قـد يـخــدم             سـواه أو ليـس كـذاك يعـلــم

فـإن يـكــن يـخـــدم أصـــلا أولا              ضرورة أو حاجة أو مكملا

«و» أما «إن أتى» أي جاء من كلام الشارع «ما يقتضي معنى الطلب» وهو الرجحان «لفعل» ما على تركه «أو» رجحان «ترك» لفعل ما «فـ» إن ذلك في بيانه «تفصيل واجب» ذكره لذلك.

«و» هذا التفصيل «هو» أن «المباح منه ما قد يخدم» باعتباره وسيلة «سواه» من الأحكام الأخرى، وهذا هو الضرب الأول «أو ليس كذاك» فلا يخدم شيئا من ذلك، وهو بذلك «يعلم» ويعرف، وهذا هو الضرب الثاني.

«فإن يكن» أي المباح «يخدم أصلا» مقصودا للشارع «أولا» قصدا أوليا، وهو -أي ذلك الأصل- إما أن يكون «ضرورة» كإقامة الحياة، فإن كل ما يخدمها يكون مطلوبا من هذه الجهة، كالأكل والشرب ونحوهما، فإن أمر به فإنه ما أمر به أنه لخدمته هذا الأصل؛ «أو» قد يكون «حاجة» ككل معاملة لا يتوقف عليها حفظ الضروريات الخمس كالقراض والمساقاة والسلم؛ «أو» قد يكون «مكملا» لما ذكر -كمكارم الأخلاق- ويعبر عن هذا بالتحسيني.

ففعـل ذا لأجـلـه مطـلــوب           من جهة الشـارع أو محبـوب

ومثلـه يجـيء في القـرءان           في معرض النعمى والامتنان

وما يكون خادمـا ما ينقض          أصـلا فإن فعل هـذا مبغــض

وليـس بالأحـق كالـطــلاق           إلا لمـا عــارض كـالـشـقــاق

فإن يكن -المباح- من هذا الصنف، وهو أن يخدم ما تقدم «ففعل ذا» أي هذا المباح «لأجله» أي لأجل هذا الذي يخدمه «مطلوب» إن كان يخدم ما هو ضروري أو حاجي «من جهة الشارع، أو محبوب» إن كان يخدم ما هو تكميلي.

«ومثله» أي مثل هذا الضرب من المباح «يجيء» مأمورا به «في القرآن»، وذلك «في معرض» يعني في مساق ذكر «النعمى» -بضم النون- النعمة الإلهية على الخلق «والامتنان» بها، ومن ذلك قوله تعالى: {يا أيها الذين ءامنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله} وقوله سبحانه: {يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا}؛ هذا هو الضرب الأول من المباح الذي يخدم سواه، أما الثاني فإنه الذي يخدم ما ينقص أصلا شرعيا.

قال الناظم: «و» أما «ما» أي المباح الذي «يكون خادما» أي وسيلة «ما» أي أمرا «ينقض» ويهدم «أصلا» من الأصول الثلاثة المعتبرة، وهي الضروريات والحاجيات والتحسينيات، «فإن فعل هذا» وإن كان مباحا «مبغض» مكروه شرعا.

«وليس بالأحق» والأولى بالفعل، وذلك «كالطلاق» فإنه مباح «لـ» أجل «ما عارض» وطرأ من موجباته، وذلك «كالشقاق» بين الزوجين والخوف من عدم إقامة حدود الله.

يتبع..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *