الربط على القلوب طارق برغاني

لايزال تثبيت الله تعالى لعباده الصالحين قائما مستمرا منذ خلق البشرية إلى يوم الدين، ومظاهر التثبيت تشمل جوانب عدة منها اللسان والقدم والقرار والقلب وغيره، فعن علي رضي الله عنه قال: “بعثَني رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ إلى اليمَنِ قالَ: فقُلتُ يا رسولَ اللَّهِ تَبعثُني إلى قومٍ أسنَّ منِّي، وأَنا حديثٌ لا أُبصرُ القضاءَ؟ قالَ: فوضعَ يدَهُ على صَدري وقالَ: اللَّهمَّ ثبِّت لسانَهُ، واهدِ قلبَهُ..” مسند أحمد: 2/165.
كما أن تثبيت الله عز وجل يتجسد في معاني كثيرة منها الشد والطمأنة والربط، وغيرها “.. والرباط: الفؤاد كأن الجسم ربط به، ورجل رابط الجأش وربيط الجأش أي: شديد القلب كأنه يربط نفسه عن الفرار يكفها بجرأته وشجاعته، وربط جأشه رباطة: اشتد قلبه ووثق وحزم فلم يفر عند الروع..” اللسان: 6/82.
كما أنها تعم فئات مختلفة من العباد يتفاضلون في تسديد الله تعالى لهم والربط على قلوبهم بتفاضل مراتب تقواهم ودرجات إيمانهم وصلاحهم.
وللربط على القلوب وسائل وأدوات وصور وغايات، أثبتتها آيات قرآنية وأحاديث نبوية.
أنباء الرسل والأنبياء:
فيها العظة والذكرى والعبرة “لقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ” يوسف: 111، وكلها صور واقعية شاهدة على صبرهم وتحملهم مشاق الدعوة، وهي نماذج حية يرشدنا الله تعالى إليها قصد الاقتداء بسيرتهم والاستنان بسنتهم، ومن المقاصد المتوخاة من هذه القصص كذلك تثبيت قلب الرسول صلى الله عليه وسلم، والربط على فؤاده، “وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ۚ وَجَاءَكَ فِي هَٰذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ” هود: 120.
والغاية من هذه القصص هي في النهاية حمل البشارة لأهل الإيمان وتوطين قلوبهم على الاعتقاد السليم بحمل القلب على الثقة في الله تعالى وحسن الظن به والإيمان بأن الله عز وجل غالب على أمره، وأن الدنيا مهما ضاقت وأن الأمور مهما اشتدت، وأن الباطل مهما عتا وطغى، فإن الحق لا محالة عليه ظاهر، “قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ ۖ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَٰذَا أَخِي ۖ قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا ۖ إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ” يوسف: 90. وأن اليسر لابد من الله تعالى قادم، “حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ ۖ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ” يوسف: 110، وأن النصر محقق ثابت، “وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ” البقرة: 250-251.
قصص المؤمنين الصادقين:
وفيها البرهان القاطع على صدق الاعتقاد والحجة الدامغة على معية الله تعالى لعباده الصالحين وشد قلوبهم على الحق في أحلك الظروف وأصعب المواقف وأحرج الأحوال، وهو تأييد رباني وتسديد إلهي ينصر به أهله وخاصته، ومن نماذج ذلك قصة فتية الكهف، “نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ ۚ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَٰهًا ۖ لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا” الكهف: 13-14.
وحال أم موسى، “وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغًا ۖ إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ” القصص: 10.
نزول الغيث:
المطر نعمة من الله تعالى تدخل السرور والبشرى على النفوس وينشرح لها الصدر لما فيها من بعث للحياة في القلوب والأرواح، فكما يحيي الله تعالى به الأرض بعد موتها فالغيث يغسل القلوب والأبدان ويجدد العزائم وينعش النفوس، “إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ” الأنفال: 11، “قال مجاهد: أنزل الله عليهم المطر قبل النعاس، فأطفأ بالمطر الغبار، وتلبدت به الأرض، وطابت نفوسهم وثبتت به أقدامهم” ابن كثير تفسير القرآن العظيم: 4/25.
وفي الربط على القلوب في مثل هذه المواقف شجاعة للباطن والظاهر معا”، “وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ”: أي بالصبر والإقدام على مجالدة الأعداء، وهو شجاعة الباطن، “وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ” وهو شجاعة الظاهر” المصرد السابق: 4/25.
وجاء في السنة النبوية في سياق آخر، أن النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يَنقُلُ التُّرابَ يومَ الخَندَقِ، حتى أغمَرَ بَطْنَهُ، أو اغْبَرَّ بَطنُهُ، يقول: (واللهِ لو لا اللهُ ما اهتَدَينا — ولا تَصَدَّقْنا ولا صَلَّيْنا . َفأنْزِلَنْ سَكينَةً علينا — وثَبِّتِ الأقْدامَ إن لاقَيْنا، إنَّ الأُلَى قد بَغَوْا علينا — إذا أرادوا فتنةً أبَيْنا).” البخاري: 4104.
شد على المعصية:
وفيه فتنة للعصاة واستدراج لأهل الكفر وإغفال لقلوبهم عن الحق، وطمس لأفئدتهم عن الهداية والرشاد، لأن الله تعالى اطلع على ما اكتنفت صدورهم من عصيان، وما انطوت عليه نفوسهم من سوء، فأمدهم بمتاع الدنيا وألهاهم بالتكاثر في ملذاتها والانغماس في شهواتها، فلا يؤمنوا حتى يأتيهم عذابه بغتة وهم لا يشعرون، “وَقَالَ مُوسَىٰ رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَن سَبِيلِكَ ۖ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ” يونس: 88، فلا تنفعهم توبتهم يومئذ ولا يغني عنهم ندمهم عما أذنبوا شيئا، “حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ” يونس: 90-91.
اللهم اربط على قلوبنا لإتباع دينك والاهتداء بسنة نبيك.
والحمد لله رب العالمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *