من أشهر ما يمكن الإشارة إليه في استعراض نماذج الأوقاف وشمولها شتى مناحي الحياة، ما يلي:
1. الوقف على القرآن والحديث والمساجد والعلم، وما يتعلق به من إنشاء المدارس، والجامعات، والمكتبات، وصرف الرواتب على الطلبة والمعلمين: فقد كانت المساجد أول وقف في الإسلام، حيث بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد قباء (أول وقف في الإسلام)، ثم بنى مسجده صلى الله عليه وسلم، وكان الناس يتسابقون إلى إقامة المساجد والصرف عليها، والتأريخ يسجل بإعجاب كثرة الأموال التي أنفقها الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك على بناء الجامع الأموي بدمشق مما لا يكاد يصدقه الإنسان لكثرتها. (من روائع حضارتنا، لمصطفى السباعي، ص:125).
ومما ذكر من مآثر نور الدين زنكي أنه بنى في بلاده مساجد كثيرة، ووقف عليها وعلى من يقرأ بها القرآن أوقافاً كثيرة، إذ يروي الأصفهاني أنّ نور الدين أمر بإحصاء ما في محال دمشـق من مساجد هجرت أو خربت، فأناف على مائة مسجد، فأمر بعمارتها وعيّن له أوقافاً دارّة.
أما أوقاف العلم فقد ذكر بعض المؤرخين أنها وجدت في عصر الصحابة رضوان الله عليهم، وكانت من الكثرة بحيث عدَّ ابن حوقل ثلاثمائة كتّاب في مدينة واحدة من مدن صقلية. (معجم البلدان، لياقوت الحموي، 3/417 – 418).
وكان «الكُتَّاب» في بعض البلدان من السعة بحيث يضم مئاتٍ وآلافاً من الطلاب، ومما يروى عن أبي القاسم البلخي أنه كان له كتَّاب يتعلم به ثلاثة آلاف تلميذ، وكان كتّابه فسيحاً جداً، ولذلك كان أبو القاسم يحتاج إلى أن يركب حماراً ليتردد بين طلابه وليشرف على شؤونهم، وكانت هذه الكتاتيب تمول بأموال الأوقاف. (معجم البلدان، لياقوت الحموي، 3/479 – 480).
2. الوقف على توفير الماء: حيث تبارى المسلمون في إنشاء الأسبلة، باعتبارها نوعاً من الصدقة الجارية التي يصل ثوابها إلى صاحبها حتى بعد موته، فقد روي عن سعد بن عبادة رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله! أي الصدقة أفضل؟ قال: «سقي الماء». وقد كانت الأسبلة تقوم مقام مرفق المياه حالياً. ومن أشهر الأسبلة: عين زبيدة بمكة، وموجودة آثارها حتى هذا اليوم.
3. الوقف على توفير الغذاء: تنافس المسلمون في تخصيص الأوقاف لإطعام ذوي الحاجة من البائسين وأبناء السبيل والمغتربين في طلب العلم، وقد تبارى المسلمون في إنشاء (التكايا) التي كان لها دور بارز في توفير الطعام لطوائف كثيرة من الفقراء والمساكين وابن السبيل وطلبة العلم، ولم يقتصر دور التكية على تقديم الطعام والشراب، بل كانت مؤسسة إسلامية متعددة الأغراض تستخدم لاستضافة الغرباء والمسافرين، وإيواء الفقراء، وطلبة العلم.
وقد أبدع الواقفون في عمارة التكايا وتصاميمها، بحيث لا تبدو مجرد مأوى أو مطعم. واشتهرت الجامعات الإسلامية العريقة، مثل الأزهر، بتوزيع ما عُرف بالجراية، وهي وجبات طعام يومية على طلابها، وكان يتم تمويل هذه الجرايات من عوائد الأوقاف.
4. الوقف على البلاد المقدسة: ومن أشهر ملوك الإسلام الذين اعتنوا بهذه الأوقاف صلاح الدين الأيوبي والظاهر بيبرس.
5. وقف الدور: لإيواء اليتامى واللقطاء ورعايتهم، ولرعاية المقعدين والعميان والشيوخ، ووقف الدور هو أشهر أوقاف الصحابة. (الأوقاف النبوية ووقفيات بعض الصحابة الكرام، ص 167).
6. الوقف على الرعاية الصحية: تجلى الدور البارز للوقف في المجال الصحِّيِّ منذ القرن الأول الهجري، حيث اتخذت البيمارستانات، وأوَّل مَن اتَّخذها للمرضى الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك؛ حيث بنى بيمارستاناً بدمشق سنة 88 للهجرة وسبَّلَه للمرضى. وقد أبدى الوليد اهتماماً خاصّاً بمرضى الجذام، ومَنَعَهُمْ من سؤال الناس، ووقف عليهم بلداً يَدِرُّ عليهم أرزاقاً، كما أمر لكل مُقْعَدٍ خادماً، ولكلِّ ضرير قائداً. (الكامل لابن الأثير 4/292؛ والجوهر الثمين لابن دقماق، ص 65) .
ومن لطيف الأوقاف الطبية: ما يعرف بوقف مؤنسي المرضى الذي خُصص ريعه لرعاية قومٍ عملهم الأساس إدخال السرور على قلوب المرضى وإيناسهم، مما يكون سبباً بإذن الله لشفائهم، فهل عرف التأريخ مثل هذا؟
وتأكيداً على رقي هذه الأوقاف جاء في كتاب الدكتورة الألمانية زيغريد هونكة «شمس العرب تسطع على الغرب»، وصفاً للمستشفيات في عهد هارون الرشيد من خلال عرض رسالة من مريض إلى أبيه يقول فيها: «أبتي الحبيب، تسألني إن كنت بحاجة إلى نقود، فأخبرك بأنني عندما أخرج من المستشفى سيعطونني ثوباً جديداً وخمس قطع ذهبية حتى لا أضطر إلى العمل حال خروجي.. واليوم قال لي رئيس الأطباء: إن بإمكاني الخروج من المستشفى معافى وأنا أكره ذلك».
7. الوقف على الأيتام والأرامل: وقد اعتنى الوقف الإسلامي بالأرامل والمساكين انطلاقاً من توجيهات النبي صلى الله عليه وسلم، ويعدُّ الزبير رضي الله عنه أول من وقف وقفاً لصالح الأرامل والمطلقات من بناته، وهذا أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يشير إلى الاهتمام بهذه الفئة فيقول: «لئن سلمني الله لأدعنَّ أرامل العراق لا يحتجن إلى رجل بعدي أبداً». وقد ذكر ابن العماد الحنبلي رحمه الله في ترجمة نور الدين زنكي رحمه الله سنة 569 أنه بنى المكاتب للأيتام ووقف عليها الأوقاف.
8. أوقاف للنساء المرضعات: ومن عجائب الأوقاف في هذا ما ذكره بعضهم: أن أوقافاً خُصصت للنساء المرضعات تسمى «أوقاف نقطة الحليب» يوزع منها الحليب على المرضعات في أيام محددة في كل أسبوع، إلى جانب الماء المذاب فيه السكر، وقد كان ذلك من صنيع القائد المجاهد صلاح الدين الأيوبي رحمه الله. (من روائع حضارتنا، لمصطفى السباعي، ص 128).
9. أوقاف لمن يقع بينها وبين زوجها نفور: حيث كان بمَرَّاكش بالمغرب مؤسسة وقفية تُسمى «دار الدُّقة»، وهي ملجأ تذهب إليه النساء اللاتي يقع بينهن وأزواجهن نفور، فلهن أن يقمن آكلات شاربات إلى أن يزول ما بينهن وأزواجهن. (الحضارة العربية الإسلامية، شوقي أبو خليل، ص 336-337).
10. أوقاف على رعاية البيئة والحيوانات والطيور: امتدت الأوقاف إلى رعاية البيئة والحيوان فوجدت أوقاف لصيانة الترع والأنهار، وأوقاف لطيور الحرم المكي الشريف، وأنشئت أوقاف لإطعام الطيور والعصافير في مدن عديدة، منها: دمشق والقدس وفاس، وأوقاف للحيوانات الأهلية الهرمة أو المعتوهة لإيوائها وعلاجها كما هو شأن وقف المرج الأخضر في دمشق وغيرها.
والمغرب من ضمن الأمصار التي سارع فيها الخلف، إلى اقتفاء أثر السلف، فبادروا بتشييد بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، وسعوا إلى عمارتها بما هي أهله، فتنافسوا في الإكثار من أنواع الوقف، مما لا يسعه العد ولا الوصف، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
وهكذا نجد أنهم حبسوا عل أئمة المساجد وخطبائها، وعلى المؤذنين، والمنظفين، وقراء القرءان الكريم، والمبلغين للدعوة الإسلامية، الشارحين لأسرارها ومراميها، وعلى كراسي العلم الموجود في المساجد، وعلى الراغبين من الطلبة في متابعة صنوف المعرفة في المعاهد، كما حبسوا على روض الأطفال، وعلى المجاهدين في سبيل الله، وعلى ما يكفل افتكاك الأسرى من أيدي الكفار، هذا إلى جانب التحبيس عل المرضى والمختلين عقليا، والمعوزين، وكسوة الهلالين والمؤذنين في فصل الشتاء، وإنارة الدروب والحارات المظلمة، تجنيبا للمارة من آفات الطرق وأخطارها، وعلى العروس الفقيرة لتجهيز نفسها، وعلى قضاء ديون المدينين العاجزين عن القضاء، وعلى تعويض الأواني التي يكسرها الخدم، وعلى توفير الحليب للمرضعات، وعلى المصابين بالحول.
بل إن الشعور الإنساني المرهف للمحسنين المغاربة، قد دفع بهم إلى الرفق بالحيوانات، فحبسوا من أملاكهم ما حبسوه على معالجة بعضها، والبرور بها، وامتاز المغرب فيما أمتاز به هذا الباب، وجود صندوق للقرض بدون فائدة
هذه بعض من الجوانب التي فكر فيها السلف الصالح رضوان الله عليهم بما أوتوا من نبل العاطفة، وما اتصفوا به من إحساس وشعور إنساني لا جزاء له إلا ما وعد به الحق سبحانه في قوله عز وجل : “من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم”. (الوقف في المغرب قديما وحديثا؛ محمد البهاوي).
إن حقائق التأريخ وشواهده تثبت أن الأوقاف الإسلامية كانت تقوم بجميع مصالح رعايا الدولة المسلمة واحتياجاتهم المهمة بلا استثناء؛ لتخفف وترفع بذلك عبأً كبيراً عن الدولة المسلمة، وتعطي أماناً وطمأنينةً لرعاياها. وقد كانت الدول والممالك الإسلامية تزول ويحل محلها غيرها ومصالح المسلمين لا تتأثر بذلك! بسبب قيام تلك المصالح على الأوقاف بكل استقلالية عن الدول وسيادتها وتعقيداتها، ومحاسنها ومساوئها. (الوقف والحضارة الإسلامية؛ د. عبد الرحمن الجريوي).