لم يكن العدد الكبير للضحايا الذين خلفتهم فيضانات الجنوب الشرقي النتيجة الوحيدة لهذه السيول، وإن كانت هي الأفدح؛ فهشاشة الطرق والقناطر، وانهيار سدود قيل إن تشييدها كلّف مبالغ باهظة، وتعطل مجاري الصرف الصحي في كثير من المواقع التي أغرقتها الفيضانات، كل ذلك كشف وفضح الفساد المالي وسوء التدبير اللذين عمت بهما البلوى في هذا الوطن.
الفيضانات خلفت -حسب أرقام غير نهائية- 47 قتيلا، وعشرات المفقودين هم على الأرجح في عداد القتلى، وتركت مئات العوائل بدون مأوى بعد أن جرفت منازلهم بالكامل أو أحدثت بها ضررا بالغا، ناهيك عن الطرق التي تفتت، والجسور التي تهاوت كأنها قصور من رمال، مع أن بعضها لم يمض على إنشائه أكثر من سنة! ما يفتح الباب مشرعا على تساؤلات كثيرة لعل أكثرها إلحاحا هو أين اختفت كل تلك الوعود والعهود بقطيعة نهائية مع حقبة الاختلاسات التي تطال ميزانيات مشاريع البنية التحتية، والتي ينجم عنها مثل هذه الكوارث والمآسي حين الامتحان بظواهر طبيعية من المفترض أن لا تحدث خسائر بهذا الحجم بالنظر إلى درجة قوتها؟؟
إن مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة الذي يتشدق به كثير من المسؤولين لا يلبث أن يتهاوى أمام مثل هذه الوقائع، إذ كيف نفهم هذه الفضيحة التي بدت عليها المملكة إلا في إطار التسيب واللامسؤولية في أداء الواجب، وخيانة الأمانة من لدن من يبيعون ذممهم بعرض من الدنيا قليل، ضاربين عرض الحائط بأرواح الأبرياء وممتلكاتهم، فأين المحاسبة على هذا الإجرام المستمر منذ عقود؟
ويحسن في الأخير أن نذكر بذلك الأثر الذي لولا ثبوته لحسبناه مثالية لا سبيل إليها، وهو كلام الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «لو أن بغلة عثرت في الطريق بالعراق، لسئل عنها عمر: لِمَ لَمْ تمهد لها الطريق؟»؛ ونحن لا نطمع في كثير من المسؤولين بربع نزاهة وعفة عمر عن المال العام، لكن من واجبنا أن نتساءل: كيف يُخْلص اليهود والنصارى في أداء الأمانات على ما هم عليه من الضلال، ويخون كثير من المسلمين الواجب وقد علموا عظم الأمانة وخطورة الاستهانة بالأرواح؟