كتب أحد الأساتذة موضوعا مقاليا حول المرأة، فضل أن يكون له كعنوان: “عيد المرأة في إسلامها”…
ولعل بل أكيد أن في ابتسارات العنوان وإجمالاته غُنية عن التفصيل والتصريح، أو حتى الحاجة إلى استعمال الرمز أو دلالة التلميح من أجل الوقوف والإشارة إلى مذهب الأستاذ، ومنطلقات وقواعد نظرته للمرأة، بل وموقفه من جوقة من يتكلمون عن حقوقها بغير وكالة مفوضة، من الذين يرفعون شعار تحريرها، والدفع بمتوَهّم معركتها أو حربها النسائية إلى الواجهة، ومساواتها مع الرجل مساواة ند وعداء وضد، وإلباسها مسلاخ الذكورة في كل شيء بدءا بأنصبة الميراث الشرعية، والاستدراك على قسمة وعدل الرب جل في علاه، وإطلاق مشروعية وفرضية خروجها للعمل، واقتحامها عقبة الكثير من الوظائف والمهن وحقول العمل، التي كانت حتى العهد القريب حكرا وحمى محروزة للرجال دون النساء، وحملها على التمرد والانقلاب على ميثاق الموروث الأخلاقي للدين وأعراف المروءة الموافقة لسوي الفطرة وسلامتها.
وربما احتجنا قبل أن يطول حبل السرد، إلى أن نشير لمسألة أن السيد الأستاذ قد نشر مقاله على صفحات الموقع الإلكتروني هسبريس، وهي إشارة تجد مسوغ التعريج على ذكرها في مناسبة لفت الانتباه إلى مستشرف التداعيات التي صاحبت أو كان من المنتظر أن تصاحب نشر الموضوع السالف ذكره كما هو التوقع الراجح.
سيما وأن الموقع درج المشرفون عليه تدريجيا إلى جعله مصطفا إلى جانب فصيل ثقافي ولون حداثي فاقع السواد، وذلك ضد وفي مواجهة كل مشروع أو غسيل ذي أنفاس إسلامية، كان قد استدرج إلى بصم صفحات الموقع بطابعه وخاتم فكره، بزعم الحياد القاضي بتنوع المنشور، وفتح الموقع في وجه الرأي والرأي الآخر، وفعلة الاصطفاف تلك مطردة في كل المشاريع التي تحكمها الأجندات المتحاملة، ومصالح الفئات الغالبة والنخب الضاغطة في مجتمع ما، وهذا بيّن واضح من خلال ضغت المنتوج الفكري والثقافي والفني الذي صار ينضح به معروض هذا الموقع الإلكتروني، كما هو بيّن من خلال ما يمكن أن نسميه تجوزا حرب التعليقات، وردود أفعال جيش الاحتياط المتواري رسمه واسمه وراء أكمة أقنعة الاستعارة الجبانة المتكالبة في حقارة وعمالة ومأجورية.
وهكذا كان لنشر موضوع الأستاذ لوازم وردود أفعال، ولعل أول هذه اللوازم هو ما عرفه ذيل الموضوع من سيل عرم من التعليقات الآخذة بناصية الكاتب قبل سطوره، وناصية الإسلام أولا قبلهما، وهي تعليقات عاملها المشترك كونها جاءت من قبيل المفعولات التي لم يسم فاعلها، فتجد الواحد المجهول العين يعربد فيسب ويلعن ويلاسن ويسخر ويستهزئ، ثم يتملص بكل يسر وسلاسة من ركس محبوره بتوقيع لا تثريب ولا خوف عليه ولا هو يحزن، وقد حماه خدر التقية وإلف وعادة هروبه إلى الأمام.
ولا شك أن هذه من سيئات الاستعارة المأذون بها ولها، بغية التمكين لكل أرعن هماز لماز، من أجل نفث وترجمة حقده وتسجيل حضوره المؤدى عنه بحسب عدد الكلمات وجرعة عبارات السب والقذف، ودرجة قبح مبناها ومعناها، وإصرارها على تحقيق شأو مأمولها وترجمة عدوانيتها تجاه الإسلام، وتجاه كل ما يندرج من إجمالات وتفصيلات تدخل في صميم عقيدته وشريعته الغراء.
لقد كتب أحد هؤلاء المجاهيل معلقا غضبانا أسفا، متذوقا مرارة الأسى جراء اكتشافه عبر قراءة المقال لكبيرة أن هذا النمط من الخطاب لا يزال متناولا يجول ويدور في الساحة الثقافية، متهما الإسلام بالنسبية والتاريخية، راميا النص بكونه محدودا في ذاته لم يقدم للمرأة حلولا سوى رفع القوامة الذكورية في وجهها وترسيخ سموها على حساب استرقاق جنسها ونوعها في كامل فصول الحياة وتجلياتها…
إنه واحد من التعليقات التي تحس وأنت مسافر بين سطورها متنقل بين موبوء تهمها، تحس بمقاصد زحفها صوب بؤرة الحق استهدافا منها لتخومه القصوى، كم تحس بكون سؤرها العكر النجس منبجس من معين واحد مستقذر العين والريح واللون، كما تحس بأنفاس الارتجالية يطبع السطور وتسطبغ به مطبات السب واللعن والملاسنة، أنفاس التحامل الذي يمتلك أسباب ومسوغات ركزه ومدافعته، وفي نفس الوقت تجد أصحابه يفتقدون لملح أدبيات التدبير وحسن التخطيط لهذه النُقلة من الحقد الفاقع المستطير…
وتلك ولا شك علامات النفاق المستشري، والحقد النابض والرابض وراء أكمات الخفاء والتورية، ولا شك أن الاسترسال في أخذ جرعات وعيّنات من صنف هذه التعليقات الحائفة، هو استرسال من شأنه أن يسرع عملية القراءة الصحيحة الحصيفة لعقلية أصحاب هذه التعليقات، ومن ثم الخلوص بالقطع والتوكيد إلى أنها تشكل نسخة طبق الأصل عن موروث الحقد القديم المتجدد، الذي صاحب دأبه وسيصاحب الإسلام والمسلمين في رحلة الحضارة يقينا لا تخمينا من مهد الدعوة وغربتها الأولى إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.
ينكر الأستاذ على معشر المحتفين بالمرأة تحجيرهم لمفهوم الاحتفال بها، وقصرهم لتجلياته على يوم يتيم، تسبقه أيام لها جعجعة لا يُرى لها دقيق ولا طحين، اللهم دندنة شعارات مشروخة دأب القوم على حمل حطبها والتلويح بشرر فتنتها، من خلال تصوير جنس الرجل الذي هو في عمق الحقيقة وصميمها لا يخرج عن صفة الأب والبعل والعم والخال والأخ والابن، وما تلعبه هذه الصفات في دائرة حماية آلية المحارم الآمنة، تصويره بكونه السجان الجلاد السيّاف الذي يهدد حريتها ويحول بينها وبين معانقة ما يناسب أنوثتها، ويخدم غنج نون نسوتها، ويعيد لها مسلوب كرامتها ومنقبة تحررها وملكها لقوامتها…
وعلى هذا يغدو في ميسورها، ومتسنى شأنها أن تغادر البيت، وتتمرد على طلب الوقر، وتنقلب على أركان الأسرة ومشروعية سلطتها الأبوية، وتكسر كل الطابوهات الجاثمة على نفسها، وتفك عقال وعقد كل الحبال المسدية المحيطة بجيدها كما هو الزعم القائم والرمي اللائم…
يدفعها ويحرضها على طول خط التمرد والرجعة معشر المترفين، الذين ما فتئوا يرسمون على ظهرها لوحة سريالية، ويعبدون لها باسم التحرر والحداثة طريق الاستعباد والتسفل في كل مقذور ونقيصة، ويفرشون لها الوعود بورود الأوهام ورياحين الأحلام، ثم يدفعونها باسم التطور تارة، وباسم الفن والمعاصرة تارة أخرى، لكي تكون في آخر المطاف لقمة سائغة المضغ، سهلة الهضم والاستحالة في أفمام ومعدات الدافعين في مقابل الإشباع النزواتي، الذي تحكم عرضه وطلبه أدبيات الوأد ومعالم الجاهلية الأولى، تلك الجاهلية التي علمنا أنها عادت وتجدد وصلها وفصلها، وإن اختلفت المسميات وتباينت الخطط وتوارى وجه المدلهمات وراء هذه الأصباغ التي رشحت إلى بلاد المسلمين عبر ذلك التماس المحموم الذي كان له في الماضي ضحايا في الأجساد والدور والجدران، واليوم نرى له ضحايا في الأرواح والنفوس، من جهة استهدافه واستذلاله لمعاني المروءة وجميل الأخلاق وكريمها…
لقد كبر عليهم أن يتهم الأستاذ احتفالهم واحتفاءهم بالمرأة، كما كبر عليه هو أن يفهم كيف ليوم يتيم أن يستوعب كل إجمالات وتفصيلات طقس احتفالهم المزعوم، كما كبر عليهم أن يؤز الأستاذ سمعهم وأبصارهم بما يعيد التفوق في مناسبة الاحتفال وحقيقته إلى إسلامنا العظيم، سوقا منه وفزعا إلى الأدلة من الكتاب والسنة، والتي تتهافت عند أسوار حصونها دعاوى التكريم، ومزاعم التعظيم والانتصار لقضايا المرأة المعاصرة، من جنس ما ينادي به ويتبناه فصيل الحداثيين، تتقدمه وتتقدم بين يديه جوقة نسوة المجتمع المدني، وصدى وأزيز ركزها المستصرخ بمنظومة الغرب هنا وهناك وهنالك.
وليس يدري المرء عن أي احتفال يتكلم القوم، وقد تبدت ظروف المرأة المعاصرة تجرها إلى تأبين الفضيلة، ووأدها في جبانة الهلاك ورمس البؤس والضياع.
فهل كان احتفالهم هذا يحتفي بنقيصة ارتفاع منسوب الطلاق وركام المطلقات؟
أم كان احتفالهم يزغرد لطابور العوانس الضارب في الطول والعرض؟
أم كان احتفالهم يمارس مكاءه وتصديته تيمنا واستبشارا حداثيا بتزايد عدد ما يسمونه بالأمهات العازبات؟
أم كان احتفالهم نسيكة أُريق دم شرفها لتجريد المرأة عن مسلاخ الحياء ورداء العفة والكبرياء؟
أم كان احتفالهم تشريفا للموؤودات في مهابط وسُفليات العلب الليلية وغرف الفنادق المصنفة نجومها بحسب المعروض من لحمها وشحمها ودمها؟
أم كان احتفالهم تأشيرا ومأذونية لسوق النخاسة حيث سعر المسافحات المتخذات الأخدان كان فيه الذئاب من الزاهدين؟
أم كان احتفالهم ولا يزال محض مضيعة للمرأة، بل أضيع لحقها وعرضها ووجودها من أكل أنصبة الأيتام في مأدبة اللئام؟
أم يا ترى كان احتفالهم بعدد النساء ومنسوبهن الكبير الكثير الذي يقبع وراء قضبان السجون هنا وهناك وهنالك يقضي العقوبة ويجتر أطوار الجريمة ويستحضر مسرحها؟
أم كان احتفالهم شكرا وتقديرا لكل من ساهم من قريب أو بعيد في إخراج المرأة في قالب منتوج وبضاعة ونزهة استهلاك للناظرين، والمرسلين للأبصار الكرة والكرتين في ما بدا من عورتها وسافر زينتها؟
ليس يدري المرء أي شعور يخالج وجدان المرأة على الحق والصدق، وهي تسمع عن هذا الاحتفال البارد أو تعيش طقوسه وتحيي ضلالته وتقر مظلمته، وقد أخذت بخناقتها مسوغات الحيف، وسطت على مصيرها عوامل الإيذاء والبطش والتذليل…
ولعلها وهي تنظر وتسمع عن هذا العدوان ومنطق تفكيره وواقعه الكالح، استفهمت في عفوية وسذاجة عن ماهية هذا الاحتفال وحقيقته التي ملأت الدنيا حولها ضجيجا وصراخا وعويلا، وقد علمت هي من صور واقعها وصوت فطرتها وريح مخصوص حاجاتها وسط هذا المحفل المستبيح لكلها جسدا وروحا وعرضا، أن ثمة غصّات مالحة في مأدبة الاحتفال هذا وطقوسه المؤسسة لاستعبادها واستقذارها واستغلالها أبشع استغلال…
وهل هناك أبشع ولا أخس وأقذر من أن يمرر هذا الاستعباد والاستقذار والاستغلال في ثوب الاحتفال والإصلاح ومأمول التحرير، ومقصود إطلاق الطاقات الكامنة في جنس الأنثى، باسم أنها نصف المجتمع، وشريكة الرجل في إدارة شؤون الأوطان، وأنها العظيمة التي وجدت دائما وراء صناعة العظماء…
ويا ليت أصحاب سمفونية العطف الكاذبة الخاطئة كانوا صادقين، بعيدين عن نوازع الهوى وإكراهات الشهوات المتفاعلة في دواخلهم، قريبين من مرضاة الله ومنارات هداية توفيقه إلى فعل الخير واجتناب الشر، ولكن وما أصعب الاستدراك إذا تعلق بحقيقة هؤلاء، حقيقة دفعت المرأة عربونا كاد يستوعب ثمن الصفقة كلها من مطلوب عرضها وجسدها وفؤادها ووجودها المستأنس والمتسلى به في فلسفة ومنطق وجود هؤلاء…