الولاء والبراء بين الشريعة الإسلامية والإمبريالية الجشعة محمد أبو الفتح

السرور والحزن، الأمن والخوف، الحب والبغض، كلها مشاعر قلبية متقابلة خلقها الله في الإنسان، فما خلق الله بشرا إلا وهو يفرح لأشياء ويحزن لأخرى، ويخاف من أشياء ويأمن من أخرى، ويحب أشياء ويكره أخرى، لكن هذه الأشياء تختلف من إنسان لآخر، وتتحكم فيها عوامل كثيرة، من أهمها العامل العقدي والفكري، وقد جاء الإسلام لينظم هذه المشاعر، ويوجهها توجيها صحيحا مبنيا على العقيدة الإسلامية السمحة.

فالحب والبغض مثلا لهما في الإسلام ضوابط شرعية وأسس عقدية ينبنيان عليها، ترجع كلها إلى محبة الله جل جلاله وتقدس جماله، فمن أحب الله صدقا أحب كل ما يحبه الله من الأقوال والأفعال والأشخاص على قاعدة المحبين الصادقين: (حبيبُ حبيبي حبيبي)؛ وكره كل ما يكرهه الله من الأقوال والأفعال والأشخاص على قاعدة المحبين المُتَفَانِين: (عدو حبيبي عدوي)، فلا يمكن أن يجتمع في قلب إنسان حب الله وحب مكارهه، فهما نقيضان لا يجتمعان، كالظلام والنور، إذا حل أحدهما تبدد الآخر؛ لذلك حين تمكن حب الله من قلوب الصحابة رضي الله عنهم أحبوا كل ما يحبه الله من الإيمان والعمل الصالح، وكرهوا كل ما يبغضه الله من الكفر والفسوق والعصيان، كما قال تعالى: “وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ”الحجرات.
وحين علم الله من بعض الصحابة مودَّة أعدائه نهاهم عن ذلك فقال: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ، أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ” الممتحنة، وقال سبحانه: “لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ” المجادلة، وفي المقابل أمر تعالى بموالاة أوليائه فقال: “إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ، وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ “المائدة.
فمحبة الله تدعو إلى محبة أوليائه من الرسل والأنبياء والصالحين وعلى رأسهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، كما تدعو إلى معاداة أعداء الله الذين بارزوه بالكفر والعصيان، فردوا دعوته وكذبوا رسله، وخالفوا أمره؛ لكن هذا البغض والشنآن لا ينبغي أن يحملنا على ظلمهم أو الاعتداء عليهم، أو سفك دمهم بغير حق؛ بل الواجب هو التعامل معهم بعدل وإنصاف كما قال تعالى: “وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ” المائدة، وقال صلى الله عليه وسلم في أهل الذمة: “من قتل معاهَدا لم يَرَح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاما” البخاري.
هكذا يوجه الإسلام قلب المؤمن فلا يحب إلا لله ولا يبغض إلا فيه، فيُنْـزِل الناس منازلهم عند الله، ويحبهم بقدر طواعيتهم لله وحبهم له.
ولما كان الحب والبغض، والولاء والبراء مخلوقان في الإنسان فإن الذين افتقدوا الميزان الشرعي السابق عقدوا ولاءهم وبراءهم على أشياء أخرى مثل عصبية قبلية، أو قومية عرقية، أو على وطنية ضيقة، تحدها الحدود الجغرافية والسياسية، أو على مصالح دنيوية تافهة، أو على أهواء وأفكار بشرية أو انتماءات حزبية.. والغريب أنك تجد العلمانيين يرفضون الولاء والبراء إذا كان قائما على أساس الدين، ويقبلونه إذا كان مبنيا على أساس حزبي ضيق، مع أن دائرة الدين وشموليته لأفراد المجتمع والأمة أوسع من دائرة الحزب، فتجد العداوة شديدة بين الأحزاب العلمانية ذاتها، ولا تكاد تجتمع إلا على حرب الدين، “بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ” الحشر. فهم وإن كانوا يَدَّعون التَّحَضُّر وقبول الاختلاف والرأي الآخر إلا أن الواقع شيء آخر، وليس هناك في الكواليس إلا البغض الشديد والتطاعن والتلاعن والتنابز بالألقاب، قد أشربوا في قلوبهم عجل الحزبية، فعليه يوالون وعليه يعادون.
ولكل قوم صنم يعقدون عليه الولاء والبراء، فلليهود أصنام كثيرة من بينها صنم الـ”هولوكست”، فمن شكك في وجود المحرقة ناصبوه العداء الشديد وأقاموا عليه الدنيا ولم يقعدوها. ولأمريكا صنم المصلحة القومية العليا وإن كانت على حساب الشعوب والدول الضعيفة، فهي تصنف دول العالم إلى قسمين، قسم يساير السياسة الأمريكية ويخدم مصالحها، فهذه هي الدول المرضي عنها وتسميها الدول الصديقة أو الحليفة، وهي مصنفة بقدر ولائها وإخلاصها لأمريكا، وقسم متمرد لا يساير السياسة الأمريكية ويهدد مصالحها، ولو في منطقة من المناطق، فهذه هي الدول المغضوب عليها وتسميها بالدول المارقة، وهي بدورها مصنفة ومرتبة حسب عدائها وتهديدها لمصلحة أمريكا، فهذا هو أساس الولاء والبراء عند أمريكا وغيرها من الدول الاستخرابية -الاستعمارية-، وهي مستعدة لتدمير شعوب كاملة، وإضرام نار الفتنة في العالم كله لتحافظ على مصلحتها المقدسة، وفي المقابل تغطي جرائمها بما يسمى بالديمقراطية وبحقوق الإنسان، فمن كان عبدا مطيعا لأمريكا رضيت عنه وسكتت عن جرائمه، ومن أغضبها حاسبته على إضاعة حقوق الإنسان، وقدمته ليحاكم على جرائم الحرب التي ارتكبها.
فأمريكا أشبه ما تكون بـ”تيس الزريبة”، كلُّ مَنْ نازعه الضراب (جماع الإناث) نطحه بقرونه، وأخضعه لسلطانه، فما أشبه عالم البشر بعالم الحيوان ما دامت تحكمه شهوات الفروج والبطون وحب التسلط (المصالح الاقتصادية والسياسية)، ولا تحكمه أخلاق ولا مبادئ سامية.
والمقصود أن الولاء والبراء مخلوقان في الناس كلهم، وإنما يختلفون في الأساس الذي يبنيان عليه، فإذا لم يكن بد من ولاء وبراء فلا أحسن من أن يكون في الله جل جلاله، خالق هذا الكون ومبدعه، فهو أحق من يوالى ويعادى عليه، قال صلى الله عليه وسلم: “أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله والمعاداة في الله، والحب في الله والبغض في الله عز وجل” (صحيح الجامع).
ولكن أعداء الله يقبلون الولاء والبراء في كل شيء إلا في الله تعالى، ويروجون عند البسطاء من الناس أنه سبب للحروب وجلب الدمار على البشرية، ولكن الواقع قد دلَّ على أن أشرس الحروب التي عرفها التاريخ وأشدها دمارا وفتكا، وأقلها احتراما للأخلاق، هي الحروب المعاصرة التي أنتجها لنا الجشع الإمبريالي، والطمع الاستخرابي، فإنه لم تسمع أذن الزمان بما أنتج الإنسان في عصرنا من الأسلحة الفتاكة التي تأتي على الأخضر واليابس، ولا تراعي حرمة شيخ فانٍ، ولا صبي رضيع، ولا امرأة ضعيفة، ولا حيوان أليف، بل تهلك الحرث والنسل باسم الحضارة والديمقراطية وحقوق الإنسان.
كل تلك الأسلحة أنتجتها الدول القوية ليس لنشر السلام والفضيلة في العالم؛ بل لحماية مصالحها الخاصة، وللفتك بكل من يعترض سبيلها. وفي المقابل تصور للأغرار من الناس أنها دول راعية للسلام تريد أن تقضي على الكراهية بين الناس، وأن تنشر ثقافة الحوار، وقبول الرأي الآخر، بينما هي تسُوق الجيوش الجرارة لتحاور الشعوب الضعيفة الجائعة بالحديد والنار، ولِتُجَرِّب فوق رؤوس الأبرياء أحدث ما وصلت إليه التكنولوجيا الحربية الحديثة.
“وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ” إبراهيم.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *