في مطار تونس
في مطار تونس يومَ الخميس الفائت أوقفتني فتاة ثلاثينية من نساء الأمن اللواتي يقمن بتلك الإجراءات الرّوتينية قبل الوصول إلى الطّائرة، فقالت لي بعدما نظرت في عيني الشرطي الذي تلمّس كلّ جسدي بحثا عن شيء قد يُفرقعهم: ماذا يوجدُ في هذه الحقيبة الثّقيلة؟ قلت لها إنّها كتبٌ.. تفضّلي افتحيها، ففتحتها وقالت: كتب ماذا؟، قلت: كتب أدب أنا كاتبها، قالت وااااو حقّا أنت كاتب… فقلت: نعم هكذا يزعمون لكنّني لست عموميا.. فتبسّمتْ ضاحكة من قولي، ثم أردفتْ بفم ملطّخ بأحمر الشّفاه: وأنا ألا أستحق هدية منك سيدي؟ ولسذاجتي وغفلتي اعتقدتها تريد كتابًا، فأخرجت نسخة من (زاد الأديب) وقلت لها تفضّلي.. فقالت: لا لا أنا في الحقيقة لا أقرأ هذه الأشياء، فأعدت الكتاب إلى مكانه بعدما رشقتها بابتسامة لا معنى لها، ثمّ سمحت لي بالمرور لألبس حذائي وحزام سراويلي وملابسي الثقيلة، والذّهاب إلى حال سبيلي.. وبعد لحظات من التّفكير في قولها، قلت ربّما كانت تريد رشوة أو ما شابه ذلك/ الله أعلم، أبعدتُ الفكرة مستعيذا بالله من سوء الظّن، وحملتُ زادي فوق كتفي اليابس مندفعا نحو قاعة تعجّ بالمغاربة منتظرًا الطّائرة في الساعة السّادسة مساءً..
أمّي
أمّي -رضي الله عنها- كلّما زارها قريب تأخذ بيده إلى غرفة مكتبتي وتقول له بزهو وافتخار هذه مكتبة ابني ربيع! فيفتح فاه مندهشا وهو يقلّب بصره في الجدران التي امتلأت عن آخرها بهذه الأشياء التي تُدعى الكتب… بل أصبحت تحفظ لون وشكل كتابي الجديد فتذهب مباشرة إلى مِنضدتي وتخرجه من بين الكتب المتراكمة فوقها وتقول له: وهذا كتابه الجديد.. فتبرق عينُ الزّائر باحثًا عن اسمي ليتأكّد أنّني فعلا كاتبه.. وكأنّه غير مُصدّق أو لا يريد أن ينبثق من قبيلته كاتب سملالي صار اسمه مكتوبًا على صفحات الكتب..! وبعضهم يهمهم ويردد لا (حول ولا قوة إلا بالله) شأنه في ذلك شأن رجل وقعت عينه على منكر في قارعة الطّريق!
لكن الغريب أنّ أغلب الزّائرين من الأقارب لا يلتفتون إلى عناوين الكتب، ونفائسها المنظّمة بعناية كعروس فاتنة بقدّها الميّاس تنتظر فحلا ليشعرها بأنوثتها ورقّتها ويستخرج ما لذّ وطاب من بدائع زهورها.. وأفانين أشجارها.. فقط سؤال واحد متّفق عليه بين القبائل: كم يُقدّر ثمنها!.. فإن كان الزّائر غبيّا لم يشمّ وردة في حياته يقول متبجّحا: ليته باعها وفتح بثمنها مشروعًا (كمحلّ لبيع الفطائر والمسمن والحرشة والشّاي المنعنع) ليدرّ عليه أموالا تغنيه عن هذه الكتب الصفراء والبيضاء والحمراء.. أمّا إذا كان أقلّ غباء وله بعض الجولات في الحدائق العامّة فإنّه يقول بل يسأل مستنكرًا: وهل سيقرأ كلّ هذه الكتب!!.. فلا تجد والدتي أمام هؤلاء النّاس جوابًا أو أحجارًا تلقمها أفواه الحمقى والنّوكى والمعذّبين ثقافيًا!
وقد طلبت إليها مرارًا وتوسّلت إليها ألا تفعل مرّة أخرى.. فأغلب النّاس في هذا العصر لا يعرفون قيمة الكتاب والكتب والمكتبات.. فما الفائدة إذًا يا والدتي جُعلتُ فِداك!.. فإذا كان مغنّي الحيّ لا يُطرب، كما قال النّاس قديمًا.. فإنّ الكاتب اليوم أصبح كائنا غريبًا مُهمّشا لا يحفل به إلاّ من كان يعرف قيمة القراءة والكتابة والأفكار التي قد تغيّر الكثير من المفاهيم الخاطئة، والاعتقادات الفاسدة إن كانت هذه الأفكار في المستوى المنشود..
لكن هيهات أن تستجيب لطلبي فقد زارنا اليوم أحد أعمامي (وهو كبير في السن 76 سنة) من مدينة أخرى وبعد أن أكل وشرب واطمأنت نفسه ونفسُ زوجه، جاءتني به والدتي كالعادة وأنا غارق في قراءة كتاب (الإنسان المهدور) للدكتور حجازي… ألقوا عليّ التحية فرحبتُ بهم.. وقلت لهم تفضّلوا.. فملأ عمّي عينه بهذا المنظر العجيب ثمّ قال حفظه الله (لأنّه لم يخذلني كالآخرين): ما شاء الله تبارك الله هذا الولد بركة أبيه! أمّا زوجه فقد دعت دعوة انطلقت لها تقاسيم وجهي الذي كان ملبّدًا بغيوم الكآبة..: (حفظك الله يا ولدي من شَرّ الخلق).
تبّا للشهرة
في تمام السّاعة العاشرة صباحا من يوم الثّلاثاء الماضي استيقظتُ على صراخ ابني أسامة الذي يبكي احتجاجا على لوحته الإلكترونية التي أخذتها منه أخته هند بالقوّة، نهضت منزعجًا أجرّ أذيال خيبة حلمي الهارب الذي كدتُ أحقّقه فوق وسادة أوهامي!.. زجرتها وأسكتّه.. رددت اللوحة إليه فابتسم إليّ ماسحًا آخر دمعة سقطت على خدّه الأملس اللذيذ.. غسلت وجهي بماء بارد وصابون رائحته كريهة، وحين رفعت وجهي إلى المرآة كدت أنكرني: عينان حمراوان بفعل السّهر، وشعيرات بيضاء غزت أسفل ذقني اليابس، ووجه ملامحه متجهّمة لا حياة فيها.. خرجت إلى الغرفة ارتديت ملابس السّوق، تناولت فطورا عاديا لا زيت فيه ولا زيتون ولا عسل ولا بيض مسلوق! ثم انصرفت بعدما طلبت إلى أمّ أولادي أن تطبخ (طاجينا) بفخذ دجاج بقي من الأمس الذّاهب.. وصلت إلى سوق الكتب المستعملة فوقفت أقلّب كتبًا قديمة في محلّ كتبي، وهو صديق قديم اسمه (رحّال) له شارب كثّ يقِيم تحت أنفه الأفطس من سنوات طويلة، وعينان غائرتان كأيّامي!..
فجأة وقفت قربي فتاة في مقتبل العمر يلفّها حجاب أسود لا يظهر إلاّ وجهها الأسمر الهادئ.. شرعت تنظر إليّ باهتمام كما لو كنت قميصًا من قمصان الغجر.. ألقت التّحية بأدب جمّ وابتسامة هادئة رسمتْها على محيّاها تجعل النّاظر إليها يحترمها ويحترم نفسه والنّاس أجمعين.. رددتُ التّحية بلطف، فقالت هل أنت (ربيع السملالي)؟ فخشيت أن أصدُقَها فتكون ابنة رجل كان أقرضني بعض المال فلم أفِ معه بالوعد المُحدّد بيننا.. قلت لا.. قالت بل تمزح أنت كاتبنا وأديبنا.. فابتسمت خجلا، وقلت نعم أنا هو.. فبدأت عيناها تبحثان عن شيء يميّزني عن النّاس، فلم تعثر لا على شعر منفوش، ولا ملابس أنيقة تسرّ النّاظرين، ولا لحية مهملة كلحية تولستوي أو برنارد شو، كلّ ما هنالك لباس عادي = جينز وقميص أزرق وحذاء رياضي كأحذية شباب هذه الأيام.. ثمّ قالت: أنا من أشدّ المعجبين بقلمك سيدي ربيع: فلم أجد بدّا من إخراج قلمي من جيب قميصي وإهدائه إليها متصنّعا الكرم.. ثمّ قلت هو لك أختي الفاضلة.. قالت بعدما ضحكتْ ضحكةً كادت تفضح براءتي: لا لا لم أقصد.. بل أسلوبك في الكتابة ممتع يعجبني ويفيدني جدا.. ابتسمتُ بمكر.. قلت مازحًا: اه اعتقدتك معجبة بقلمي.. فاعذريني فأنا لا أفهم في بلاغة الجرجاني ولا السّكاكي كثيرا!
ابتسمت مرّة أخرى من كلامي.. و بعد لحظات بدأت تسألني عن كتب تهمّها وتبحث عنها، فأجبتها باختصار، وحدّثت نفسي أن أجالسها في مقهى من مقاهي السوق ، لكن تذكرت السي الحسين صاحب المقهى التي تعشّش فيه العناكب، وتذكرت عبثه الدّائم بأنفه، فعافته نفسي وأبعدت الفكرة.. فودّعتها على أمل اللّقاء بها في أقرب فرصة… حاولت أن أصافحها فاعتذرتْ إذ إنّها لا تصافح الرّجال الذين في مثل سنّي.. فشعرت بهزيمة نفسية وانكسار داخلي وأنا أرى يدي ممدودة ضائعة في الهواء لا تجد من يلمسها، رددتها بفتور ثمّ انطلقت إلى سوق الملابس المستعملة للبحث عن جوارب استعدادًا للشّتاء.. ولساني يدندن: تبّا للشّهرة.. تبّا للشّهرة..!
عجوز متصابية
في سفري الأخير إلى مدينة مراكش جلست بجانبي في المقعدين الأماميين من الحافلة امرأة عجوز متصابية، تلبس لباسا ضيّقا، وتكشف عن النّصف الأعلى من ثدييها المترهلين، لها وجه ملطّخ بالأصباغ كوجه قرد متقدّم في السّن بل هو أقبح، قالت لي قبل أن تتحرّك الحافلة بعدما ابتسمت لي بشفتين يابستين شوّههُما أحمر الشّفاه: إلى أين أنت ذاهب! فقلت لها في نفسي قبل أن أجيب: (ذاهب للقرينا اللي غادي تضرب بوك في هذا الصّباح).. ذاهب إلى مكّة!.. طبعا ذاهب إلى مراكش! فلمّا شعرت بانزعاجي قالت معتذرة: اعتقدتك ذاهبًا إلى قلعة السّراغنة.. ثمّ التزمتُ الصّمت ولذتُ بهاتفي أقرأ بعض تغريدات الأصدقاء!.. فصاحت: وااااو هاتفك رائع! كم ثمنه ؟.. قلت في نفسي قبل أن أجيب: (مصيبة هذي صافي).. ثمنه 8000 درهم! فتحت العجوز فاها من الدّهش فانكشفت الأسنان عليها آثار التّدخين وتقادم الزّمن ، قالت: لا تبالغ وهل يوجد هاتف في الدّنيا بهذا الثمن!.. قلت لها بفتور: هل سمعت بشيء اسمه (أيفون 6 بلس) يا سيدتي؟ فقالت: لا.. قلت: فهذا هو.. طيب انسي فثمنه مائتا درهم فقط! فأحست بسخريتي ولم تنبس ببنت شفة.. وانطلقت الحافلة تلتهم الأرض التهاما فنسيت أمرها كما قد نسيتْ أمري، فهي منشغلة بالنظر إلى الطبيعة من خلال النافذة، وأنا غارق في الدّردشة مع صديقة مصرية!.. ثم فجأة سمعتها تهمس للسائق لأنه يجلس أمامنا مباشرة: ما هذه الأغاني الشعبية القديمة التي تستمع إليها وتفرض علينا الاستماع إليها معك.. هلاّ أسمعتنا شيئا آخر يكون جديدا!.. فقال لها الخبيث وهو رجل خمسيني طاعن في القبح: من عيوني!.. ثم قال لها اسمعي، فانبثق من المسجلة صوت قبيح شبه أنثوي يقول: (اعطني صاكي بغيت انماكي بغيت انبان اليوم زوينة)! فطربت العجوز واستخفّ بها التّصابي وانطلق لسانها يقول: الله الله على زينة الدّاودية.. فلم أجد بدّا من أخذ حقيبتي والانتقال إلى مقعد في مؤخرة الحافلة وأنا أردد مع الجاحظ:
أترجو أن تكون وأنت شيخ… كما قد كنتَ أيّام الشّباب
لقد كذبتك نفسك ليس ثوب… دَريس كالجديد من الثياب!
يأجوج وماجوج
هذا المساء: قدّر الله أن أجلسَ في مقهى لأكتب شيئًا وأقرأ أشياءَ، بعيدًا عن ضجيج الأولاد، وصراخّ أمّهم ، فابتلاني الله بجمهور فوضوي كأنّه الجراد.. دخلَ إلى المقهى لمتابعة مباراة في كرة القدم.. فطفقوا ينظرون إليّ مندهشين كما لو كنت مخلوقًا له رأسان ولسانان وثلاثة أرجل..
دَاعِشيٌّ
قبلَ يومين مرّ بجانبي رجلٌ خمسيني ذو سحنة سوداء كالحة ولحية قصيرة بيضاء مخضوبة بالحناء، يَلبس لباسًا أفغانيًا تغيّر لونه بفعل الأوساخ، وينتعلُ حِذاءً درويشًا.. فهمس قرب أذني: مشركين!.. فالتفت فوجدته أبا فلان البنّاء الأميّ الذي كنت أعرفه من سنوات، ولكنّه انحرف عن الجادة وأصبح داعشيًا يكفرّ حتّى الدّواب.. فأعرضتُ عنه إعراضي عن أكل المنخنقة.. ولمّا أخبرت أستاذي الذي زارني اليوم وكان يعرفه تأسّف لحاله وأثنى عليّ إذ لم أردّ الإساءة بمثلها، ولا الشّتيمة بأختها.. فسألته مازحًا: لماذا نصبَ كلمة (المشركين) فقال نصبها على الاختصاص!.. فـ(ضحكنا وكان الضّحك منّا سفاهة وحُقّ لسكان البسيطة أن يبكوا)..