من الفطنة والكياسة أن نمتطي صهوة الأمل وندوس كلَّ ألم، ونُحيل ترابَ مُلِمّاتِنا تِبراً. فلا نركن لتلك الروح الانهزامية المتخاذلة التي تفتكُ بكل خلايا الحياة فينا. ولا يظفر بهذا المرام إلا صاحب فكرٍ نيّر ونفسٍ وثّابة وهمّة متوقدة تأبى أن تسلسلها صروف الدهر. ولهذا وجب على المسلم عدم الخنوع للأزمات والانبطاح أمامها منكسرًا ذليلا، يحصي الثواني ذوات العدد مترقّبا أفول نجمه. علينا أن نصنع من “الليمونة الملِحة شرابا حلوا” ومن غمامة الهموم مُزْنا ترتوي منه نفوسنا العطشى، وتنهض به هممنا المتآكلة.. ولعل هذا ما كانت تصبو إليه نفس الشيخ أحمد الجوهري عبد الجواد وهو يخط ببراعة صفحات كتابه الماتع (صفعات قادت إلى الخيرات).
عنوان الكتاب أول ما يثير فضول القارئ ويشد انتباهه، فهو يشي بمحتواه النبيل، وينبئ عن تلك التحولات التي وقعت في حياة بعض الأشخاص بفعل أحداث عنيفة هزّت كيانهم، فكان اختيارا موفقا ونبيها.
وقد افتتح المؤلِّف مؤلَّفه بتمهيد تشويقي أشار فيه بعجالة لفحوى الكتاب عارضا لبعض الشخصيات -موضوع الكتاب- مركزا على نقطة التحول في مسارها، تاركا القارئ في ترقب وشغف لمعرفة تفاصيل هذا التحول. وقد اعتمد الشيخ الجليل في جلّ صفحات كتابه طريقة سرد ماتعة لا تشعرك بالملل، بل تحفزك لطيّ صفحات الكتاب قائلا في ختامها : هل من مزيد.
والملاحظ أن جلّ التراجم كانت لأناس بسطاء يمتهنون حرفا يدوية، لكن لهم شغف عجيب بالعلم وأهله -(خياط، بائع كساء، ساعاتي)- جعلهم يتبوأون الصدارة في العلوم الشرعية أو اللغوية أو الأدبية.
ابتدأ الشيخ كتابه بالحديث عن سيبويه معنونا صفعته بـ(عالِم بين محنتين رافعة وقاتلة)، فكانت محنته الرافعة حين أنّبه شيخه حمّاد بن سلمة بعد أن تكرر منه اللحن في موضعين فاتخذ قراره الحاسم (لأطلبنّ علما لا تلحنني فيه أبدا، فطلب النحو ولزم الخليل، فبرع) وفي خبر آخر أنه كسر قلمه وقال: (لا أكتب شيئا حتى أُحْكِم العربية). أما المحنة القاتلة فهي إخفاقه في مناظرته مع شيخ نحويي الكوفة الإمام الكسائي والتي كان لها بالغ الأثر في نفسه حتى قيل أنه مات كمدا من تداعياتها النفسية عليه.
وهذا الذي حدث مع سيبويه، حدث للكسائي نفسه، إذ دفعه امتعاض زملائه من لحنه ذات مرة إلى المسارعة لتعلم النحو وضبط قواعد اللغة العربية، حتى تحول من (بائع كساء عادي – ككل الناس – إلى إمام من أئمة النحو واللغة).
أما الإمام أبو حامد الغزالي فكانت صفعته من لص سرق (مخلته التي فيها كتبه وكراريسه)، فسخر منه لمّا رأى حرصه عليها قائلا: (كيف تزعم أنك عرفت علمها وعندما أخذناها منك أصبحتَ لا تعلم شيئا وبقيتَ بلا علم)، فكان هذا الرد كافيا لتحفيز الغزالي على حفظ كل ما يتعلمه من العلوم حتى غدا شيخ الإسلام. وقد كانت القصة فرصة ليحضّ المؤلف -بارك الله فيه- على حفظ العلوم وعدم الاكتفاء بقراءتها وساق شواهد شرعية وشعرية في ذلك.
ومما أمتعني حديثه عن صفعات أبي حنيفة، فمن كان يعتقد أن حياة الإمام الفقيه عالم العراق وصاحب أشهر المذاهب الفقهية سيتغير مسارها بفعل امرأة بل بفعل مجموعة من النساء، كانت صفعات لكنهن رحيمات، وكان للإمام الجرأة أن يقص القصص، ويُبقي الحدث للذكرى حيث قال: (خدعتني امرأة، وفقّهتني امرأة، وزهّدتني امرأة)، ولأزيد شوقك للقصة -أخي القارئ- لن أزيل اللّثام عن سرّ القصة وسأترك لك فرصة اكتشافها حين مصافحتك للكتاب.
وفي فصل بديع معنون بـ(قمر القرن) تحدث الشيخ الجوهري عن الشيخ ناصر الدين الألباني، مجدد العصر الذي طرده والده من بيته وهو ما يزال غضّا طريا في سن العشرين، بسبب احتدام الخلاف الفقهي بينهما، وشدة تعصب والده لمذهبه، مما أزعجه فخيره قائلا: (إنّ هذا الوضع القائم الآن لا يستقيم، أنت تجدّ في مخالفتي، وأنا لا أطيق هذه المخالفة، فإما أن توافق، وإما أن تفارق) ففارق على مضض، ليمشي في طريق العلم والبحث في الحديث حتى غدا أحد أئمته.
ومِن صفعةِ سخريةٍ تولّدت همّة عظيمة، ذاك ما كان من شأن الشيخ المفتي محمد إسماعيل، الذي كان خياطا، شغوفا بالعلم ومجالس العلماء، فسخر منه بعض القوم حين رأوه على أتانه الأبيض، مما جعله يعقد العزم على أن يلقن الساخرين من آل العمادي درسا يلجم ألسنتهم، فحصل له ذلك ونال شهادة الإفتاء من اسطنبول،وغدا الخياطُ مفتيا، وتلك قصة جميلة تستحق القراءة.
ومن الحكايا التي تثير فيك بعض الشجن وأنت تقرأها، قصة الإمام عبد الله بن مسلمة القعنبي، وكيف استطاع أن ينتقل من حياة اللهو والعبث إلى حياة الاستقامة والجدّ بفضل تلك الصفعة التي أهداه إياها الإمام المحدث شعبة بن الحجاج حين ألقاها في أذنه (إذا لم تستح فاصنع ما شئت)، فكان فيه من الحياء ما جعله يقلع عن غيّه ويكف عن استهتاره ويصنع لنفسه ولأمته ما تفخر به إلى يومنا.
أما ابن حزم فمن لطيف ما ذكره الشيخ الجوهري عنه أنه كان يجهل بعض الأمور الفقهية البسيطة في الصلاة من قبيل تحية المسجد وكيفية جبر الصلاة بسجود السهو وقد جاوز سن العشرين، فلما عاب عليه القوم ذلك قرر أن يتعلم الفقه ويملأ وعاء قلبه وعقله منه، يقول الشيخ: (لقد كانت تلك الحادثة في حياة ابن حزم -رحمه الله- بمثابة أفعى رقطاء أفرغت سمّها الزعاف في جسده، فطار إلى الطبيب يلتمس لها الدواء، فإذا ابن حزم يلوم نفسه على عدم العلم، فيتعهدها من يومها بالعلم).
ومسك الختام لصفعات هؤلاء الأعلام كان شيخ العربية وأديبها محمود محمد شاكر، الذي كان لتلك الواقعة بينه وبين طه حسين عن الشعر الجاهلي، أثرها العظيم في حياته والتي جعلته كما قال المؤلف يترك (الجامعة غير آسف عليها وهو في السنة الثانية، لأنه لم يعد يثق بها) فقد (سقطت هيبتها من نفسه) وما عاد (يحتمل هذا الفساد الذي رآه في أساتذته ومعلميه). فقرر البحث في الشعر الجاهلي ومن ثم في التراث الإسلامي.
فهذه بعض النفحات من ” صفعات قادت إلى الخيرات “، كتيّب صغير الحجم عظيم النفع، يغرس في نفسك كثيرا من الأمل، ويجعل المستحيل باب وهْمٍ نصنعه حين يكبّلنا العجز، وتأسرنا ظروف الحياة، ويغلق الشيطان دوننا كل أبواب الرحمة، فها هم هؤلاء الأفذاذ لم تقف عقبات الحياة دون نبوغهم فلا عقبة السن ولا عقبة الذنوب ولا غياب الشواهد العلمية، ولا امتهان الحرف اليدوية حال دون نبوغهم. بل قرروا لحظة تلقيهم تلك الصفعات أن يغيروا مجرى حياتهم، فقرروا وعملوا ووصلوا.
لكن السؤال الذي ظل يسكنني بعد هذه السياحة الجميلة بين صفحات الكتاب: لماذا لا تفعل الصفعات فينا فعلها الرحيم بأمثال هؤلاء؟ كم صفعة نتلقاها في الحياة ثم لا نكاد نفقه منها شيئا، كم مرة وقعنا في اللحن فهل عزمنا على تعلم النحو وقواعد اللغة، وكم من القضايا تقضّ فكرنا، فهل شمرنا عن ساعد الجدّ وخضنا غمار كشف النقاب عنها، وكم مرة جوبهنا بالسخرية والتحقير، فهل شعرنا بعزة النفس وقررنا تصحيح ما أثار سخرية الناس منا؟
لا يهم إذن أن تتلقى الصفعات في حياتك، بل الأهم أن تحسن التفاعل معها، أن تحوّل مسارها التدميري إلى سلم ترتقي به سلم المجد والردّ بما يعيدُ للنفس هيبتها واعتبارها.
الصفعات في زماننا كثيرة من القريب والغريب، من العدو والحبيب، لكن استسلامنا لها بسبب روحنا الانهزامية، وضعف ثقتنا في قدراتنا، يجعلنا ننحني لها، وننطوي على أنفسنا ونحن ننتظر أن يدور الزمن دورته ليرد للصّافع صفعته.
كم نحتاج لروحهم الوثابة لنُجابه كثيرا من الصفعات!
لا تقنطنَّ من النجاح لعثرةٍ….ما لا يُنال اليوم يدرك في غدِ