لا نحتاج إلى كبير عناء، حتى ندرك مفهوم العلمانية على مر الأزمنة. إنها قديمة قدم الإنسان في التاريخ كوعاء يحوي الأحداث التي صنعها، أو واجهها وتغلب عليها أو تغلبت عليه؟ فالحكم بغير ما أنزل الله هو العلمانية بدون ما لف ولا دوران؟ بحيث إنها لم تنشأ في أوربا كما يدعي من يربطونها بفصل الدين عن الدولة، أو بفصل مسمى السلطة الروحية عن السلطة الزمنية. في إشارة إلى أن الأولى يمارسها رجال الكنيسة، من رهبان وقساوسة وأساقفة. بينما يمارس الحكام إدارة الدولة بقوانين وضعها المشرعون من البشر، أي أنها لا تمت إلى الدين بأية صلة؟
وما لا بد من التسليم به، هو أن الأوربيين لم يكونوا في يوم من الأيام يحتكمون إلى شرع الله؟ فالإمبراطورية الرومانية قبل ظهور سيدنا عيسى عليه السلام، كانت تدين بالوثنية، بل وصلت بها وثنيتها إلى حد عبادة الإمبراطور كعبادة المصريين للفرعون الذي قال: “أنا ربكم الأعلى”؟ وحال الرومان في هذا الشأن كحال المجتمعات أو القبائل البدائية التي تقدس ملوكها على اعتبار أنهم يحملون مسمى “المانا” (= البركة)! هذه القوة الخارقة التي لم يتيسر حملها لأي كان.
وحتى عندما قبل الحكام الرومانيون في نهاية المطاف، السماح للمسيحيين بممارسة دينهم بعد اضطهاد طويل، أزهق فيه الرومان آلاف الأرواح، لم يعرف الإنجيل طريقه إلى التطبيق بخصوص الأحكام الشرعية لسببين اثنين:
ـ لأن الإنجيل، أو الأناجيل لا تحتوي على هذه الأحكام، وإنما تحتوي على وصايا ونصائح ومواعظ وتوجيهات سامية.
ـ لم يقم المسيحيون بتطبيق ما في التوراة من أحكام شرعية، حتى بعد أن أصبح لهم نفوذ في الدولة الرومانية، معتقدين أنهم غير مأمورين بتطبيقها. وكيفية الصلاة والالتزام بمضامين الإنجيل، تولى الرهبان شرحها انطلاقا من هواهم الذي تجاوز حقيقة الكتاب المقدس، إن بالزيادة وإن بالنقصان، مما ألحق بالإنجيل تحريفات وتشويهات، حال متعهدوها بالرعاية دون مناقشتها؟ لأن ما تنطوي عليه بالنسبة إليهم، لا يعطي لغير رجال الكنيسة حق الخوض فيه. فأصبح الحديث في الدين المشوه حكرا على الرجال، أولئك المذكورين قبله. لكن مع بزوغ فجر النهضة الذي فتح الباب أمام الفكر الحر ولو في حدود، بين المفكرون زيف ادعاءات من يحق لهم وحدهم الكلام والتصرف بالدين وفيه وباسمه؟
يقول فولتير: “أخذ كل من الكنيسة والآباء المقدسين على عاتقهم أن يجعلوا الديانة المسيحية أقل تماسكا! ألا إنهم هم الذين يدعوننا إلى الإيمان بالثالوث الأقدس (=الأب والإبن وروح القدس)؟ الأمر الذي يشكل سانحة لمجادلات دامية؟ ولكن لا توجد كلمة واحدة عن ماهية هذا الثالوث في التوراة ولا في الإنجيل! إنما تبحثه مؤلفات الأفلاطونيين الحديثين! وهم الذين يعرضون قانون الإيمان على أنه المبدأ الذي أملاه الحواريون؟ ولكن هذا النص لم يدون إلا في عهد جيروم؟ أي بعد انقضاء أربعمائة سنة على وفاة معاصري يسوع المسيح. وهم الذين يؤكدون عصمة المجامع المقدسة عن الخطأ! ولكن هذه المجامع على غير وفاق”؟؟؟
فصح أن الفصل الذي يدعي العلمانيون بأنه تم بين الدين والدولة مجرد أكذوبة؟ وإنما الذي حصل هو الفصل بين الكهنوت الكنسي الظلامي، وبين الدولة التي كادت الكنيسة تطمس معالمها، كتنظيم علماني، هو امتداد للنظام الروماني المتقدم تاريخيا على ظهور السيد المسيح صلوات الله وسلامه عليه.
فلنسلم إذن عن اقتناع تام بأن ما حصل في الغرب الأوربي، والذي أدى إلى مسمى عصر النهضة أو عصر الأنوار، هو تصحيح لمسار تاريخي لقارة، لم يسبق لحكامها قط الاحتكام إلى أي شرع رباني؟ وبما أن آباء الكنيسة أوهموا الأوربيين بأن ما يريدون به إدارة شؤون دولهم، هو عين شرع الله الذي تضمنته الأناجيل، هذا الذي قاموا هم باستخراجه وشرحه وتقديم التفاصيل عنه.
وبما أن هذه الشعوب المخدوعة، استيقظت من غفلتها، بفضل مفكريها الكبار، كقادة لحركة تصحيحة ضرورية، فإن الأوربيين عادوا إلى الأصل الذي يعني تسيير شؤون دولهم بالقوانين الوضعية، بحيث تبقى الديانة شأنا فرديا، لا دخل فيه للدولة. فمن شاء فليؤمن بما ادعت الكنائس أنه هو الدين الحق، ومن شاء فليكفر به؟
غير أن الوضع عندنا كمسلمين، وكدول ذات تاريخ مديد، لم نحتكم قط إلى غير الأحكام الشرعية العملية، انطلاقا من دولة المدينة التي أسسها رسول الله، قبل التحاقه بالرفيق الأعلى، فوصولا إلى تعرضنا للغزو الاستعماري الأوربي، هذا الذي طبق علينا وعندنا ما طبقه عليه وعنده، بعد تحرره من طغيان الكنيسة التي شوهت الدين وحرفته، وادعت بخصوصه ادعاءات مغرضة على جميع الأصعدة:
ومن حقنا الآن، إن لم نقل من واجبنا، أن نطرح السؤال الوارد كعنوان لهذه المقالة: لماذا يصلي العلمانيون الأقحاح؟
لا ننكر أن علمانيين كثر يؤدون الصلوات الخمس، كانوا قادة دول، أو كانوا وزراء وكبار الموظفين. كانوا أساتذة أو معلمين، أو كانوا قضاة ومحامين وأطباء وصيادلة ومهندسين، ورجال أعمال.
إنما لماذا يصلون؟ ولديهم اقتناع تام بأن الاحتكام إلى شرع الله في تسيير شؤون دولنا لا يتناسب والعصر الذي نحن فيه؟
وادعاء كهذا الذي يطلون من ورائه، ينطوي على اتهام الله بالجهل والظلم في الآن ذاته؟ إنه سبحانه لا يعرف تماما نوع القوانين المفيدة لضمان كافة حقوق بني آدم مجسدين في دول تقتسم العالم الأرضي كما هو بين؟
ثم إنه سبحانه بالنسبة لهم غير عادل لكون الأحكام الشرعية العملية الواردة في خطابه إلى البشرية جمعاء، لا تناسب كافة الأمكنة والأزمنة؟ مما يعني أنها نسبية لا مطلقة. والنسبي قد يصلح في زمن، وقد لا يصلح في زمن آخر بعد حين من الدهر؟
فإن كانت هذه هي قناعة العلمانيين المثقفين الواعين الدؤوبين على وصف الأحكام الشرعية بالفكر الظلامي.. وعلى وصف الدعاة إليها بالظلاميين. فكيف يقبل الله صلاتهم وهم الذين يدعون بأنه سبحانه يقر التمييز بين الرجل والمرأة؟ إنه من جهة يجيز للرجل الزواج بواحدة، أو باثنتين، أو بثلاثة، أو بأربعة على قدر طاقته؟ ثم إنه من جهة ثانية يوصي للذكر في الإرث بحظ الأنثيين؟ فأن يحصل الولد المتوفى والده على مائتي ألف درهم، وتحصل أخته على مائة ألف درهم لا غير، ظلم ما بعده ظلم؟ مع التأكيد على أن مآخذنا هذه جميعها لم تجر في السر، وإنما جرت في العلن، وعبر الوسائل الإعلامية الرسمية بالتحديد؟
وقد يثار تساؤل هنا بخصوص إسلاميين ضد العلمانية في الخطاب السياسي، لكنهم معها متى انضموا إلى العلمانيين كحكام، أو كمساهمين مباشرة في إدارة الشؤون العامة للدولة، بناء واعتمادا على ضوابط وعلى قوانين وضعية؟ دون أن نجد لهم -ومزاعمهم الإصلاحية على قدم وساق- أية خطوة في اتجاه تغيير الواقع الظلامي الديني ممثلا في الطرقية والشعوذة والقبورية. وإنما هم أصبحوا من المساهمين المباشرين في ترسيخ هذه الظواهر الثقافية والمجتمعية؟ خدمة منهم للدولة العميقة التي رافقت الانتفاع بها في إدارة شؤون الأمة؟ بحيث تنضاف أفاعيل العلمانية والعلمانيين إلى دين مشوه لخدمة الأقلية الخادعة، هذه التي ورثت سلوك نفس مسار أسلافها دون أن تبتعد عنه قيد أنملة! فجمعت كما هو معروف بين الدفاع عن فكرين معرقلين للنهضة والحداثة والتقدم والتحرر: فكر ظلامي ديني، وفكر سياسي سلطوي وحزبي؟؟؟