موقف يوسف عليه السلام مع السجناء (نموذج تطبيقي للتربية القرءانية الصالحة) د.عبد العزيز وصفي باحث في العلوم الشرعية والاجتماعية

 

دخل يوسف السجن بسبب التهمة التي أُلصقت به زوراً وبهتاناً من قِبَل امرأة العزيز، وإنْ كانت كلُّ الدلائل والبراهين تشير إلى براءته وعفَّته بما لا يدع مجالاً للشك.

وأوَّلُ ما يلفتُ نظرنا في سلوك يوسف داخل السجن، أنه لم يجعل من حياته خلف القضبان مجالاً للاستسلام إلى الأفكار الذاتية التي يجترُّ في إطارها آلامه وأشواقه إلى آفاق الحرية، ولم ينشغل عن قضيته الأساسية، بل عمل على تحويل السجن إلى مجالٍ حيٍّ من مجالات الدعوة إلى الله. وهو سلوكٌ يُحتذى به، خاصة في أيامنا هذه التي أصبح فيها السجن موئلاً لأصحاب المبادئ والحقوق.

 

لقد كان يوسف في سجنه حَسَن السيرة طيِّب السريرة، ليِّن الجانب مع السجناء، فكان يقوم على شؤونهم بالمواساة وتقديم النُصح، فكان لـه بذلك في نفوسهم منـزلة رفيعة ومكانةً عليَّة وكلّ تقديرٍ واحترام، مما حَدَا بساقي الملِك وخبَّازه المسجونيْن معه إلى أنْ يطلبا منه تأويل رؤياهما.

فيوسف عليه السلام قد حاز ثقة السجينيْن، ولكنه لم يستثمرها لنفسه، ولم يتَّخذها سُلَّماً لهوى أو مَطْمع، وإنما جعلها مَدْخلاً لعقيدة التوحيد، ومَرْقاة للصعود بالأرواح -ولو من داخل السجن- إلى آفاق علوية مطهرة رضية. فما أنْ طَلَب منه السجينان تأويل الرؤيا حتى انتهز هذه الفرصة لنشر دعوته وبثِّ عقيدته، مستفيداً في ذلك من نعمة تأويل الرؤى التي أنعم الله بها عليه.

قال تعالى: ﴿وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ، قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ، وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ[1].

ويَظهر الأدب في كلام يوسف عليه السلام من خلال عِدَّة أمور، أهمها:

 

  1. أدب الاستماع والإصغاء

لقد كان هذا الأدب واضحاً في استماع يوسف إلى رفيقيه في السجن، وهما يعرضان عليه رؤاهما ويطلبان إليه تأويلها. فلم يمتنع عن ذلك، ولم يُقْفِل أذنيه عن الإصغاء لهما، بل اعتبر ذلك فرصة جيدة للدعوة، فلجأ إلى زيادة ثقتهما بقدرته على التأويل، من خلال إعلامهما بمستواه الكبير الذي يجعلهما منجذبين إليه ومرتبطين به بشكل أكبر، كأسلوب عمليّ من أساليب التأثير النفسي عليهما، قبل أنْ يستغرق في الحديث، ويدعوهما إلى عقيدته[2].

  1. أسلوب التشويق

طَمْأَن يوسف عليه السلام صاحبيه بأنه سيؤوِّل لهما رؤياهما، لأنَّ الله قد منحه القدرة على ذلك. ونلحظ هنا أنَّ يوسف استعمل حرف “من” الدَّال على التبعيض، ليشير لهم أنَّ تأويل الرؤى ليس كلَّ شيءٍ علَّمه إيَّاه الله، وإنما هو جزءٌ يسير مما علَّمه، وفي ذلك تشويقٌ لهم إلى معرفة ما لديه من علوم، وأنَّ عِلْمَه عِلمٌ لدنيّ ليس فيه كَسْبٌ ولا تحصيل، فهو علم خاص عَلَّمَه إياه ربُّه جزاء تجرّده لعبادته وحده وتركه عبادة قوم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر[3].

  1. الأدب مع الله

من الأدب أن يُنسب الفضل لأهله، وهكذا فعل يوسف عليه السلام، فهو لم يقل لصاحبيه بأنَّ تأويل الرؤيا علمٌ من بنات أفكاره وأنه حصَّله بقدرته وذكائه، ولكنه ينسب هذا العلم إلى الله سبحانه وتعالى أدباً معه.

وبذلك “يدخل يوسف عليه السلام إلى قلبي صاحبيه، للدعوة إلى ربه الأوحد، معللاً بأنَّ ما أدهشهما من عِلْمه وانبهرا به من سلوكه إنما هو هِبَة من ربه الذي رباه فأحسن تربيته وعلَّمه من تأويل الأحاديث، وهو العلم الذي يؤوِّل لهما رؤياهما عن طريقه”[4].

  1. عدم مواجهة السجناء بأنهم على الكفر والضلال

قال يوسف موجِّهاً كلامه لصاحبيه في السجن: ﴿إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ﴾. والقوم هنا هم الذين تربَّى يوسف بينهم، وهم أهل بيت العزيز، وحاشية الملِك، والملأ من القوم والشعب الذي يتبعهم.

وهنا مَلْمح لطيف جديرٌ بالوقوف والملاحظة، وهو أدبُ النبوَّة الذي يتجلَّى في عدم مواجهة السجينين اللذَيْن يخاطبهما بحقيقة معتقدهما رغم كونهما على ملَّة القوم، وإنما يواجه القوم عامة كي لا يُحرجهما ولا ينفرهما، وتلك كياسة وحكمة ولطافة وحُسن مدخل ينبغي على الدعاة إلى الله أنْ يتحلُّوا بها في دعوتهم لأنها ميراث النبوة[5].

ونلحظ هنا أيضاً أنَّ يوسف عليه السلام ذَكَرَ تَرْكَه لملَّة الكفر، ثم أعقبه بذكر اتباعه لدين آبائه من الأنبياء، لأنَّ التَخْلية مقدمة على التحلية كما يقول الآلوسي[6].

ثم يمضي يوسف عليه السلام في بيان ملامح دعوته القائمة على التوحيد، كلُّ ذلك في مقدمة يطرحها بين يدي تأويله لرؤيتي صاحبيه، فيقول:

﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ، مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُون[7].

وهنا يظهر الأدب في كلام يوسف عليه السلام من خلال عدَّة أمور، أهمها:

  1. أسلوب لفت الانتباه

فبعد المقدمة التي هيَّأ بها يوسف عليه السلام صاحبيه في السجن لسماع دعوته، يقف معهم وقفة متأنِّية، مسترعياً انتباههما واهتمامهما للاستماع إليه بطريق النداء بـ”يا” الموضوعة لنداء البعيد، طلباً لإقبالهما عليه بكلِّ اهتمام وتركيز، مثيراً فيهما دوافع التفكير المنطقي السليم الذي يزن الأمور بميزان العقل والعدل والفطرة، وذلك عن طريق الاستفهام التقريري في قوله: ﴿أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾[8].

  1. التعبير بلفظ “يا صاحبي السجن”

يُلحظ هنا أنَّ يوسف عليه السلام، ينادي السجينين اللذَيْن تقدما إليه بطلب تفسير الرؤيا بقوله: “يا صاحبي السجن”. والمعنى -كما يقول الآلوسي-: يا صاحبيَّ في السجن، إلا أنه أضيف إلى الظرف توسّعاً، كما في قولهم: يا سارق الليلة[9].

واختياره للَّفظ الدال على معنى الصُحبة، ليكون ذلك أدْعى إلى قبول كلامه، فإنَّ الصُحبة تقتضي العلاقة الوثيقة بين الأطراف المشتركة فيها، والتي يترتب عليها أخذ كلِّ طرفٍ برأي الآخر.

قال الآلوسي: “ولعلَّه إنما ناداهما بعنوان الصحبة في مدار الأشجان ودار الأحزان التي تصفو فيها المودة وتتمحض النصيحة ليُقبلا عليه ويقبلا مقالته”[10].

فيوسف عليه السلام اتَّخذ منهما صاحبين، وتحبَّب إليهما بهذه الصفة المؤنسة، ليدخل من هذا المدخل إلى صلب الدعوة وجسم العقيدة.

  1. أسلوب التمهيد والطرح الموضوعي في الدعوة

نلحظ في الآيتين السابقتين أنَّ يوسف عليه السلام لا يدعو صاحبيه إلى التوحيد بشكلٍ مباشر، وإنما يعرض عليهما قضية موضوعية، فيتساءل مُقَرِّراً: أعبادة أرباب متعددين مختلفي الأهواء والمنازع، متبايني الأجناس والطبائع خيرٌ، أم عبادة الله الواحد القهار المتفرِّد بالألوهية، المالك لهذا الكون، المسيِّر لـه والمتصرِّف فيه، والقاهر لـه بسلطانه؟[11].

لا شك أنَّ الفطر السليمة ستختار الخيار الثاني، فقد جاء السؤال إذاً بصيغة الاستفهام التقريري.

ثم تدرَّج عليه السلام في دعوته إلى التوحيد، فنفى أنْ تكون معبوداتهم تستحق أدنى معنى من معاني الألوهية، فهي لا حقيقة لها في الوجود إلا أسماؤها، وما عبادة الأصنام والأوثان إلا محض افتراء. وبعد هذا التدرّج والتمهيد الحسن، صرَّح بالدعوة إلى التوحيد بشكلٍ واضح، فقال: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ﴾. وهذا الأسلوب غاية في الأدب، وغالباً ما تكون النتيجة المترتبة عليه إيجابية، لأنه يعمد إلى تهيئة التربة للزراعة قبل إلقاء البذرة فيها.

وهكذا فقد كان يوسف عليه السلام صاحب سلوك طيِّب محمود، وأخلاق كريمة عالية، وأدبٍ جمّ مع السجناء، وهو ما أقرَّ به صاحباه وشهدا به حين قالا: ﴿إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾.

هذا السلوك الذي انعكس بشكلٍ مباشر على علاقة يوسف عليه السلام بمن لقيه في السجن، الأمر الذي جعل أحدهما يتذكّر بعد بضع سنين ما كان من شأنه مع يوسف عليه السلام، فيعود إليه ليسأله عن تأويل رؤيا الملك ليجد عنده الخبر اليقين، ثم ما كان بعد ذلك من خروج يوسف من السجن والمكانة التي حَظيَ بها، والتمكين الذي صار له، الأمر الذي أعطى ليوسف حريةً واسعة في الدعوة إلى الله، لأنه أصبح في مركز القرار والسلطة، فكان لذلك الأثر الواضح على حياته من جهة، وعلى حركة الدعوة بشكلٍ عام من جهة أخرى.
————————————
[1]  سورة يوسف: الآيات (36- 39).
[2]  انظر: فضل الله، محمد حسين: الحوار في القرآن، ص319.
[3]  انظر: محمد، عبد الصمد عبد الله: خطاب الأنبياء، ص65.
[4]  المرجع السابق، ص66.
[5]  انظر: المرجع السابق، نفس الصفحة.
[6]  انظر: الألوسي، أبو الفضل محمود: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، ج12، ص242.
[7]  سورة يوسف: الآيتان (39، 40).
[8]  انظر: محمد، عبد الله: خطاب الأنبياء، ص66.
[9]  انظر: الآلوسي: روح المعاني، ج12، ص243.
[10]  المرجع السابق، نفس الجزء والصفحة.
[11]  انظر: محمد، عبد الله: خطاب الأنبياء، ص67.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *