الكنبوري*: الحرية لها ضوابط وخصوصيات وتتطلب تأهيلا نفسيا وثقافيا وتربويا حاوره: مصطفى الحسناوي

في ظل هذا الجدل المفتعل عن الحريات الفردية في المغرب، في نظركم هل الحريات كل لا يتجزأ، أم أن لها ضوابط وخصوصيات وقواعد وسياقات تحكمها؟
بالطبع الحرية نسق متكامل العناصر والمكونات، بحيث لا يمكنك أن تفصل بين نوع معين من الحريات وبين أنواع أخرى مجاورة، وإلا أصبحنا أمام تقييد للحرية باسم الحرية نفسها. ففي كل مجتمع هناك طبقات وشرائح متعددة، وكل طبقة تفهم الحرية وفق طبيعتها وشروطها الاجتماعية والثقافية. فمثلا المثقف يفهم الحرية على أنها إتاحة الفرصة للكلام والنقد، والسياسي يراها فتحا لمجال المشاركة السياسية، والتاجر يراها حرية الانخراط في دورة رأس المال، وهكذا.
لكن الحرية أيضا لها ضوابط وخصوصيات، ولها أيضا ما نسميه “أزمنة التكييف”، بمعنى أن هناك حريات لا يكون مجتمع معين ناضجا ومؤهلا لها في ظرفية معينة، مقابل مجتمع آخر قد يكون مستعدا لها، لأن الحرية تتطلب أولا تأهيلا نفسيا وثقافيا وتربويا. لا يمكنك مثلا أن تمنح الحرية الاقتصادية في مجتمع يأكل بعضه بعضا، أو الحرية السياسية في مجتمع متصارع، لذلك نجد بعض المجتمعات تتعامل مع الحرية السياسية على أساس قبلي أو طائفي كما في لبنان مثلا، أو في بعض البلدان الإفريقية، وليس على أساس المواطنة الفردية كما هو الحال في الغرب.

من خلال قراءاتكم، لو توجزون لنا كيف تطور مفهوم الحرية في الغرب؟
من الصعب تقديم ملخص موجز حول تطور مفهوم الحرية في الغرب المسيحي منذ البداية، لأن هذه الحرية مرت عبر مراحل متراكمة أدت إلى ما هو موجود اليوم. المشكلة أننا في العالم العربي ننظر إلى ما وصل إليه الغرب ولا ننظر إلى المسار الذي قطعه قبل أن يصل إلى ما وصل إليه اليوم، فنريد النتائج ولكن لا نرضى بإعادة المسار، لأن لا أحد سواء من النخبة السياسية أو الثقافية مستعد لدفع كلفة هذا المسار، لكن الجميع يريد الاستفادة من النتائج بالمجان.
وعودة إلى سؤالكم فقد انطلق مفهوم الحرية في الغرب من مفهوم التخلص من سطوة الكنيسة وسلطتها الدينية التي كانت ممثلة في الكهنوت. ونحن نعرف أن الكنيسة لم تكن تعترف بالفرد إطلاقا وتعتبره مجرد خادم لها، أو رعية للمسيح، وبالتالي هو لا يملك نفسه، إلى درجة أن المؤمن الحقيقي هو الذي يوصي بجميع أملاكه للكنيسة قبل موته لينال الجزاء الأخروي. لذلك كان من الطبيعي أن يعلن فلاسفة الأنوار التمرد على الكنيسة من أجل تحرير الكائن الإنساني.
المسألة الأخرى هي فكرة الخطيئة الأصلية التي هي فكرة مركوزة في الديانة المسيحية، فالخطيئة الأصلية تعني أن الفرد ليس له مسؤولية، وعندما لا تكون مسؤولية لا تكون هناك حرية، لأن الحرية هي المسؤولية عن الأعمال والقدرة على الاختيار، لذلك كان لا بد من تحطيم هذا الصنم. لو قارنا هذا كله بما جاء به الإسلام فسوف نجد أن الإسلام انطلق منذ البداية كنقيض لهذه المفاهيم، لذلك أنا أقول بوضوح بأن فكر الأنوار في أوروبا جاء انتصارا للإسلام، فهو جاء بجميع المفاهيم التي جاء بها الإسلام، الفرق الوحيد أن الإسلام أسس تلك المفاهيم في إطار الإيمان، بينما أسسها فكر الأنوار في إطار الإلحاد، لكن الدينامية الفلسفية والسياسية هي دينامية واحدة.

هل ترون الحريات الفردية أولوية ومطلبا شعبيا في المغرب؟
عبارة مطلب شعبي تعني أن الغالبية تريدها، وهذا ليس صحيحا مع الحريات الفردية؛ لأن هذه الحريات تطالب بها القلة القليلة، فهي مطلب غير شعبي، لكن هذا لا يعني أنها مطلب غير شرعي.
أنا أعتقد أن المشكلة الرئيسية في المطالبين بالحريات الفردية المغربية أنهم يطرحونها كشأن خاص لكن في المجال العام، بينما خصوم هذه الحريات يطرحونها كشأن عام في إطار المجال الخاص.
وسأوضح فكرتي: إن الحريات الفردية قضية خاصة تهم الفرد في حياته الخاصة، وله الحق في التمتع بها، لكن عندما يخرج هذا الحق ويصبح في المجال العام تصبح هناك مشكلة، لأنه يتحول إلى إخلال بالنظام السائد في المجال العام، نفس الأمر بالنسبة لخصوم هذه الحريات، فهم يريدون فرض النظام السائد في المجال العام على كل فرد في خصوصيته كنوع من الوصاية.
نحن جميعا نعرف قصة عمر بن الخطاب عندما تسلق سورا لأن هناك شخصا يشرب الخمر في بيته، فنهره عمر، لكن الرجل رد عليه بقوة لأنه تجسس عليه ودخل بيته من ظهره والقرآن ينص على إتيان البيوت من أبوابها، بمعنى أنه خرق القوانين الجاري بها العمل، فما كان من عمر إلا أن تراجع. هذا مثال لرجلين، رجل يعرف قوة القانون فلا يخرقه، ورجل يعرف نفوذ المجال العام فيشرب الخمر في بيته دون أن يمس بالقوانين العامة. لذلك نقول نعم للحريات الفردية لكن في إطار المجال الخاص، ونعم للمجال العام لكن دون اعتداء على الخصوصيات الفردية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الدكتور إدريس الكنبوري: مفكر وباحث في قضايا الفكر الإسلامي ومقارنة الأديان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *