حرية الفلاسفة وحرية المراهقين

الحرية مذاهب ومدارس ومفاهيم متعددة، وليست بالشكل المبسط المسطح الذي يقدمها بعض المؤدلجين ممن لهم أغراض ومآرب، ويخدمون الأجندات الواضحة والخفية، حين يختزلون الحرية في حق الإنسان في فعل مايحلو له، ثم يختزلون هذا الحق في الشذوذ الجنسي وحق التصرف في الجسد والإفطار العلني في رمضان والسخرية والاستهزاء من الأديان…، ويجعلون ذلك من الحقوق المقدسة التي لاتقبل النقاش.
حين كتب المفكرون والفلاسفة ونظروا للحرية على مدى قرون، لم يخطر ببالهم هذا الذي يثيره بعض المراهقين فكريا وسياسيا، لذلك ستجد الفلاسفة والمدارس الفلسفية اختلفت وتضاربت وهي تضع تعاريف للحرية.
حين كتب أرسطو واصفا مفهوم الحرية عند الديمقراطيين الإغريق قال: “الحرية تقتضي أن يعيش كل فرد كما يشاء، بدعوى أن تقييد حرية الإنسان علامة من علامات العبودية”.
من جهته يرى “هوبز” أنّ حرية الفرد غير مستقلة كليا عن حرية الجماعة التي ينتمي إليها.
واحتفظ “جون لوك” في كتاباته بمفهوم الحرية الهوبزي، لكنه خالفه في مدى السلطات المطلوب إعطاؤها للحاكم لتحقيق الأمن والسلام.
أما “هيغل”، الذي تأثر بتعريف روسو للحرية، فقد نحى منحى فلسفيا متكاملا للحرية، وصل به إلى نقيض الحرية في المفهوم الهوبزي البريطاني.
وعمد الفلاسفة الفرنسيون والألمان، أو ما يشار إليه أحياناً بالفلسفة القارية، إلى تطوير مفهوم آخر للحرية يقوم على تطابق إرادة الفرد وإرادة الجماعة السياسية، وهكذا تمكنت المدرسة القارية من تخليص مفهوم الحرية من معاني الانفلات والعبثية الذي اقترن بالمفهوم البريطاني للحرية، من خلال إعطائها محتوى أخلاقياً إيجابياً، لكنها في الوقت نفسه قيدت هذا المفهوم بالدولة.
ويرى العديد من الباحثين الغربيين أنّ الحرب العالمية الثانية شكلت صداما ميدانيا لمفهومي الحرية الإنجليزي الهوبزي والألماني الهيغلي، الحرية بوصفها تحريرا للفرد من تسلط المجتمع، والحرية باعتبارها التزام الفرد بالمبادئ والقيم التي تحرره من النزوات والعبث. ويرون كذلك أن انتصار المعسكر الإنجليزي على المعسكر الألماني مثل في حقيقة الأمر انتصار المفهوم الهوبزي على المفهوم القاري.
هذه المطارحات والسجالات والتعاريف، تعكس إلى أي حد كان الطرح عميقا، وإلى أي حد كانت الحاجة والضرورة داعية، وارتبطت الحرية في تلك العصور بمعاني سامية ورفيعة، فكانت تطرح حينا بما يقابل العبودية، وتطرح حينا ردا على الاستبداد، وتطرح للتخلص من ربقة رجال الكنيسة، فكانت مطلبا حقيقيا لتحرير الإنسان، الإنسان كل الإنسان وليس الفرد الأناني الثائر على جماعته وقيمها.
لكن ما يتم طرحه الآن هو حرية مراهقين، يسعون لاختراق مجتمعات أرست مجموعة قواعد وقيم على مدى قرون، هؤلاء المراهقون لا تهمهم تلك الحرية التي ترفع من قيمة الفرد داخل مجتمعه، بل يريدون إعلان حرب بين الفرد وجماعته، وبذلك يسعون لفصل الأفراد عن تربتهم، وتشتيت المجتمعات وتفتيتها، وتقديمها لقمة سائغة لمشاريع السيطرة والإلحاق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *