قال صاحبي: «العربية لن تُعدَمَ أبدًا مهما اجتهدوا في الكَيْد لها والمَكر بأهلها». قلتُ: أُقدِّر هذا الشعورَ النبيل وأحترمه، وأَتمنَّى مثلَك هذا التَّمنِّي وأَحلُم به. لكنْ… (وما نَيلُ المَطالب بالتَّمَنّي…) كما قال شاعر العربية الخالد.
إذا كانوا كلَّ يومٍ يَقصُّون أَجنحَتها قَصّا، ويُشوِّهون خِلقَتَها تشويهًا. يأتونها من هنا، ويُفاجئونها من هناك. يَرصدون حركاتها وسَكَناتها، ويُحصُون أَنفاسَها. يُشدِّدون الخِناق عليها ويُحاصرونها في كل ميادين الحياة. فهل يَستمرُّ لها وجودٌ أو يكون لها كِيان؟
اللغاتُ لا تعيش وتتنفَّس بالدُّعاء والبَرَكة، وإنما تحيى بالإعمال وتنمو وتتطوّر بالاستِعمال، وتَضِيع وتَفْنَى بالتفريط والإهمال. وإعمالُها يكون في جملة أشياء أخرى، بالحرص على إقحامها في كل المجالات من العلوم والاقتصاد والتقنيات والتجارة وتسيير الإدارة والأعمال والشركات، وغيرها من المرافق العامة والخاصة. وذلك هو معنى المحافظة عليها كما أراه وأفهمه.
لا فائدةَ من عربية لا تصلُح إلا قطعةَ آثارٍ في مُتحَف العادِيات، أو لأداء بعض الشعائر الدينية من صلوات وأدعية، والتلفُّظ بما تَيسَّر من قُرآن يَصعبُ نُطقُه ولا يُفهَمُ معناه، لتستويَ في ذلك باللاتينية التي انتهى أمرُها وتحوَّلت إلى لغة طُقوسية في الكنيسة الرومانية الكاثوليكية. لا خيرَ في أهلها إذا رَكَنوا للانتظار حتى تَضيق بها السُّبُل، وتُسَدَّ أمامَها الآفاق، فلا يَبقَى لها مكانٌ تَأوي إليه سوى هذا الرُّكن الصغير من المساجد والأضرحة ومَدافن الأموات.
وبعدما عَقَدوا العزمَ وبَيَّتُوا النيَّةَ، أعَلنوا قرارهم الرَّسمي، بشكل استِباقي واحتفالي، ذلك الذي يقضي بمنع استعمال العربية في تدريس المواد العلمية بأنواعها، وموادّ أخرى لا نعرف أسماءَها (سُبحانَ من علَّم آدم الأسماء كلها..!) في مجموع أسلاك التعليم العمومي والخصوصي، بالجُملة لا بالتقسيط. (علاجٌ) بالصَّعقة الخاطِفة وزيادة السُّرعة، لا بالتدرُّج مثلما زَعموا من قبلُ، ولا بسياسة خُطوةٍ خُطوة. تراجَعوا حتى عن هذه الفكرة البسيطة الأخيرة. قال مسؤول التعليم الأول في كلمةٍ جافَّةٍ جازِمة شاحِبة مُكفَهِرّة، ولغةٍ ذاتِ نُتوءاتٍ خَشِنة مُباشِرة، لا نَضارةَ فيها ولا مساحيقَ تجميلٍ وتَرطيب: «اعتماد اللغات الأجنبية لتدريس بعض المواد ولاسيما العلمية والتِّقنية منها».
ومما قَّرّروا الإسراع به والمُضيِّ فيه بلا إعدادٍ ولا تحضير ولا تدبير، أن تُصبح اللغةُ الأجنبية الأولى (الفرنسية طبعًا)، وبدءًا مِن هذه اللحظة، إلزاميةً في كل مراحل التعليم، أي بما يشمل مستوى التعليم الأوَّلي (رَوض الأطفال الذين هم في بداية أعمارهم الغضَّة الطَّرِيّة) كما جاء في فقرة واضحة من مشروع (رؤيتهم الاستراتيجية). وهذا الأمر جديدٌ كل الجدّة على تاريخ المغرب الحديث. وإن كان الاستعمار قد حارَبَ التعليم الأوّلي المتمثِّل يومذاك في الكتاتيب القرآنية لسبب واحد هو كونُها تُعلِّم العربيةَ بالقرآن. كان الميثاقُ الوطني للتربية والتكوين (1999م) أشدَّ شفقةً ورحمةً بالصغار، فلم يُسمح بإقحام أية لغة أجنبية قبل سنّ الثامنة (الثانية من السلك الابتدائي). ومَن يَقرأ (مشروعهم) الحالي، يترحَّم على ذلك الميثاق.
ربَّ يومٍ بَكَيتُ، منه فلمّا صِرتُ في غيرِهِ، بَكيتُ عليهِ
بدأوا تنفيذ الخُطّة حتى قبل أن يُصادق عليها البرلمانُ وتتحوّل إلى قانون ساري المفعول، في خُطوة استِباقية مُصَمَّم عليها، تُكبِّل يديه وتفرضَ عليه الأمرَ الواقع الذي لا رجعةَ فيه. ما عساك أيها البرلمان العزيزُ أن تفعل الآن؟ وماذا سيناقِشُ نوابُ الشعب المحترمون؟ الفكرةُ الأخطر والأهمّ في (الرؤية/الرُّؤيا) مرَّت وانتَهت، والبقية مجرد كلامٍ لتَزجِيّة الوقت ودفع الأيام. جفَّت الأٌقلامُ ورُفِعت الصحفُ. لم يبقَ هناك موضوع جدّي للمناقشة. لا حاجة لحضوركم أيها السادة النواب (قُضِيَ الأمرُ الذي فيه تَسْتَفتِيان). كل سياساتنا التعليمية وتخطيطاتنا اللغوية، تأتي في شكل قضايا استِعجالية، وتُملى على الناس والأجهزة وتَنزِل على رؤوس الجميع، من سَماواتٍ عُلْوية فَوقية.
إعدامُ العربية أو شَنقُها واغتيالُها، كان عن قصد وسَبْقِ إصرار وترصُّد، وبسرعة ضوئية قياسية كما قلتُ. والتُّهمةُ جاهزةٌ معروفةٌ من قبل. لقد قبَضوا على العربية وهي في حالة تلبُّس لا ينفع معها سَتْرٌ ولا غِطاء ولا حِفظُ ملفٍّ أو جلسة تأمُّل في الدعوى. أليست السببَ الأول والأخير في فشَل منظومة التعليم؟ أليست لغةً قاصِرة عاجِزةً عن مسايَرة العصر؟ ثَبَتَت التُّهمةُ، ولو بدون حجّة أو دليل أو حضور شُهودٍ. يكفي تقريرُ المجلس الأعلى.
القاضي أصدرَ الحُكمَ، وفضيلةُ المُفتي أطَلعُوه على جملة من الحَيْثيات حسب التكييف القانوني الذي أرادوه وحَبَكُوه وقدّموه في تابُوتٍ مُتقَن الصُّنع من خَشَب السّاجِ الأصيل والصَّندَل العَتيق، ملفوفٍ بغِشاوةٍ من حرير ناعِمٍ مُدبَّجٍ بعباراتٍ شَهيّة لذيذة لا تُرَدُّ ولا تُرفَض. فكان الدُّعاءُ: آمينَ. آمينَ.
قال صاحبُ الرواية وسارِدُ الحكاية:
بعد ذلك قامت جوقةُ نُحاسيةٌ مُعتَبَرة، فزَفَّت الخبرَ للجماهير المُحتَشِدة. وكانت الاحتِفاليةً كبيرةً، فَخْمةً باذِخةً، لائقةً بمَقام الضَّحية التي جيءَ بها مُصَفَّدَةً صاغِرةً. أَكَبُّوها على وجهِها عند عَتَبات الفرنكفونية المقدَّسة.شَحَذوا السِّكّين لُيحسِنوا الذِّبْحةَ، وقَدّموا القُربانَ لآلهة ذلك المَعبد الرُّخاميّ العظيم، على الشَّرط المعلوم، ومبدإ المُقايَضةِ الذي لا بُدَّ منه (كلّ شيءٍ بمقابِل).قالوا: حتى يبارك الله لنا في تعليم أولادنا وأحفادنا ويُزكّي أعمارَنا، ويُطيلَ نعمةَ بقائنا واستمرارنا آمِنينَ في سِرْبِنا، مُطمئنِّين في حلاوة عيشنا، وعلى مقاعدنا وكراسينا، لا يَنالُنا من الضّرّاء والبَأساء ما نالَ الآخَرين من حَوالينا.
الحُكم صدرَ، والتنفيذُ غدًا قبل طلوع الشمس. ومن له قدرةٌ على الاستئناف فليتقدَّم داخلَ الآجال.