انهيار حضارة ثمود:
مقدّمة:
كانت سنّة الله في خلقه أنّ المفسدين تأتيهم النّذر حتى تقوم الحجّة عليهم، فإن هم استفاقوا من غفلتهم زال الخطر، وإن هم بقوا في غيّهم صدق عليهم قول الجبّار سبحانه: ﴿حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ﴾ (المومنون:24-66). وهذا حال حضارة ثمود، لمّا قامت تلبّست بها بواكير الفساد المدمّرة لكل بناء إذا أهملت ولم تعالج في حينها.
ثانيا: التّحذير من العواقب
لمّا يسود الظّلم وتعلو سماءَ قوم سحائبُ الطّغيان، يرسل الله إليهم رسولا لعلّهم يَرشدون، ويؤيّده الله تعالى بآيات معجزات تصديقا لما جاء به، فيبلّغهم بما من شأنه أن يرجعهم عن غيّهم وينقذهم من سوء المصير في الدّنيا والآخرة؛ وهذا حال صالح عليه السّلام مع ثمود: ذكّرهم بالمنعم وحذّرهم من قبح ما هم فيه من نكران، ووضع بين أيديهم أسباب التّحصين التّالية:
- أمرهم بتحويل الوجهة إلى الله تعالى وحده لا شريك له: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ (الأعراف:73- هود:61)، وهذا أوّل مطلب للرّسل عليهم السّلام من أقوامهم، فذكّرهم بنعم الله تعالى عليهم. وفي البدء بإسلام الوجه لله تعالى كسرٌ لطوق الاستكبار الذي يُلجم عقولهم كي تتحرّر وتتحرّى الحقّ والصّواب، ولينجلي أيّ شكّ في صدق دعواه أيّده بآية عظيمة لا مجال لإنكارها ومقارعتها، فأمرهم بعدم الإضرار بها بأيّ حال من الأحوال لأنّها ناقة الله سبحانه: ﴿قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾(الأعراف:73) وحذّرهم من الإخلال بالقواعد المرسومة للتّعامل معها: ﴿قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾(الشعراء:155-156).
- ذكّرهم بأفضاله عليهم وأمرهم بالشّكر والتّوبة والاستجابة لدعوة رسولهم: ﴿ فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ (الأعراف:74) ﴿فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ﴾(هود:61) ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ﴾ (الشّعراء:150-152) .
- ردّ جميع دعاواهم لأنّها باطلة، من ذلك ما جاء في قوله سبحانه: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ﴾ (هود:63) ﴿قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ﴾ (النّمل:46- 47).
لم ينفع التّحذير المتكرّر من رسول الله صالح عليه السلام، واستمر الفساد الاعتقاديّ والعمليّ واستفحل، وصار لزاما أن تسقط هذه الحضارة بموجب سنّة الله تعالى الثّابتة أنّ القوم المفسدين إذا ما أُنذروا من ربّهم ولم ينتهوا فإنّ عذابه يحلّ بدارهم يستأصل شأفتهم.
ثالثا: نهاية حضارة ثمود:
وصف الحقّ سبحانه هذه الحضارة بأوصاف موجبة للهلاك، بعضها من بعض: الإفساد والاستكبار والتّقليد والكفر والتّكذيب والمكر والإعراض: ﴿وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ (الأعراف:74) ﴿قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾ (الأعراف:76) ﴿أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ﴾ (هود:62) ﴿فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ﴾ (هود:63) ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ﴾ (الشّعراء:141) ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾ (فصّلت:17) ﴿قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ (النّمل:49-50) .
أمّا عملهم الشّنيع الذي آذن بقرب نهايتهم الأكيدة فهو استخفافهم بما أمرهم به نبيّهم صالح عليه السّلام أنّ الإساءة إلى ناقة الله هو فتح لباب العذاب الأليم العظيم عليهم ﴿فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ﴾ (الأعراف:77) ﴿فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ﴾ (هود:65). وجاء موعد العقاب العادل من ربّهم ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾(الأعراف:78) ﴿فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾(هود:66-67). إنّها صاعقة ذات صوت هائل أتت في الصّباح وأحدثت رجفة في القلوب وزلزلة في الأرض، صعق بها القوم فأصبحوا خامدين، فهي صيحة وصاعقة وطاغية ورجفة وعذاب.
هنا حطّت حضارة ثمود رحالها وما زادت خطوة عن المقدور لها، لأنّه سنة الله وحكمه في أيّ بناء حضاريّ نخر الفساد جسمه ووصل حدّا يعلمه الله سبحانه؛ هنالك يسقط وينهار ويفسح المجال لغيره كي يقوم.
خاتمة:
قصّة ثمود كغيرها من قصص الأقوام الماضية والآتية، والتي بلغت وتبلغ شأوا بعيدا في الحضارة، ثمّ انتكست وتنتكس بفعل انحرافها العقديّ والفكريّ والسّلوكيّ، فجعلها ويجعلها الله تعالى أثرا بعد عين. آياته سبحانه تشهد بذلك: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ﴾ (إبراهيم:30-31) انتقال من النّعيم إلى البوار، أي من الاستقرار والتّحضّر إلى عدم الاستقرار (الخوف والحزن والاكتئاب) والهلاك في الدّنيا والآخرة، لأنّ هناك فتور في الإنجاز الحضاريّ الإيجابيّ الذي يحقّق وظيفة الإعمار والاستخلاف.
وأمّتنا، التي طال سباتها وتداعى عليها المستكبرون، عليها أن تعتبر، فالوجهة معروفة والهدف محدّد، والحياد عنه مصيره معروف أيضا. إنّ التحضّر ظاهرة إنسانية خاضعة للإرادة، وقيامه رهين بعوامل تدخل غالبا في نطاق الإرادة الإنسانية على سبيل التّحصيل والكسب، كما أنّ عوامل تداعيها أيضا تدخل في نطاق الكسب الإراديّ في أغلبها وليست حتميّة[1]. لذلك فالتّحضر والحفاظ عليه مسؤولية الإنسان التّكليفية لا تخرج عن إطار نطاق القدر الإلهي العامّ الذي يحكم الوجود كلّه.
——————————–
الهوامش:
[1] – عبد المجيد النّجّار. فقه التّحضّر الإسلامي، بيروت: دار الغرب الإسلامي، ط1، 1999م ص42.