الحلقة الثالثة
قرر (رايموند دي سال ـ جيل) محاصرة معرة النعمان ـ في سوريا ـ كان الحصار طويلاً صعباً لكن الصليبيين أفلحوا في الاستيلاء على المدينة وذبحوا سكانها.. وفي هذا يقول ابن الأثير: “خلال ثلاثة أيام أعملت الفرنجة السيف في المسلمين قاتلين أكثر من مائة ألف شخص وآسرين عدداً أكبر من الأسرى..”. وكتب المؤرخ (راوول دين كاين): “عمل جماعتنا على سلق الوثنيين ـ يقصد المسلمين ـ البالغين في الطناجر، وثبتوا الأطفال على الأسياخ والتهموها مشوية..”. وكتب المؤرخ (البيرديكس): “لم تتورع جماعتنا عن أن تأكل الأتراك والمسلمين فحسب وإنما الكلاب أيضاً..”. وقد كتب (أمين معلوف) تعليقاً على تلك الشهادات: “لن ينسى الأتراك مطلقاً أكل الغربيين للحم الإنسان، وعبر كل أدبهم الملحمي سيكون الفرنجة موصوفين دائماً كأكلة لحوم البشر، وسوف يساهم مشهد معرة النعمان بحفر هوة بين العرب والفرنجة لا تكفي قرون عديدة لردمها…”. ويصف ابن الأثير في الكامل الاستيلاء على القدس قائلا: “ولبث الفرنج في البلدة أسبوعا يقتلون فيه المسلمين، وقتل الفرنج في المسجد الأقصى ما يزيد على السبعين ألفاً منهم جماعة كثيرة من أئمة المسلمين وعلمائهم وعبادهم وزهادهم ممن فارق الأوطان وجاور ذلك الموضع الشريف، ثم بدأ النهب والسلب..”.
الحملة الصليبـية الثانية لم يَصْفُ العيش للصليبيين في ديار الإسلام إذ كانوا يتعرضون للغارات باستمرار ولهجوم المسلمين بشكل دائم، وعندما نقضوا عهدهم مع العبيديين(1) أصبح الهجوم يأتيهم من قبل العبيديين من الجنوب ومن قبل السلاجقة(2) من الشمال. وجه العبيديون حملة كبيرة بقيادة حاكم بيروت السابق عام 494هـ/1100م انطلاقاً من عسقلان نحو بيت المقدس ويافا غير أنها فشلت. وجهز العبيديون حملة أخرى عام 495هـ/1101م واتجهت إلى اللد والرملة فخرج للقائها ملك بيت المقدس الصليبي (بلدوين) فانهزم وفرّ إلى الرملة ولاحقه المسلمون ففرّ من الرملة واستعادها المسلمون، ثم حاصروه في يافا فجاءته نجدات بحرية فهاجم المسلمين فانتصر عليهم. ثم أرسل العبيديون حملتين: إحداهما برية والأخـرى بحرية واستنجـد (بلدوين) بأمير الرها وأمير أنطاكية فأنجداه وانتصر. وجهز العبيديون جيشاً كبيراً ودعموه بأسطول بحري، وطلبوا دعم السلاجقة فأجابوهم، وجرت أول معركة عام 498هـ/1104م ظهر فيها التعاون بين السلاجقة والعُبيديين، ولم تكن نتائجها واضحة. واستمرت غارات العبيديين على البلدان التي سيطر عليها الصليبيون، فقد أغاروا على يافا عام 499هـ/1105م، وفي العام التالي على الخليل، وفي العام الذي يليه وصلوا إلى أسوار بيت المقدس، وفي عام 518هـ/1124م أغاروا على يافا، وأغاروا على بيت المقدس. وأما من جهة الشمال فقد قضى السلاجقة عام 494هـ/1100م على حملة صليبية جاءت من غربي أوروبا لدعم الوجود الصليبي في بيت المقدس. ونصب الأمير “كَمَشْتكين” كميناً لأمير أنطاكية الصليبي وأخذه أسيراً عام 494، واستطاع في العام التالي أن يستعيد ملاطية من الصليبيين وأن يأخذ أميرها أسيراً. وفي عام 497هـ/1103م سار أتابك الموصل “جكرمش” والأمير “سقمان بن أرتق” صاحب ماردين لقتال الصليبيين في الرها، وتمكنا من إبادة الجيش الصليبي، ووقع (بلدوين) و(جوسلين) في الأسر. وفي عام 499هـ أغار أمير دمشق “طغتكين” على بلاد الجليل، وأغار أمير الموصل مودود عام 505هـ/1111م على الصليبيين، وفي العام التالي سار إلى جهات طبريا ومدينتها. وفي عام 514هـ/1120م هاجم النصارى “الكرج” ومن معهم من “القفجاق” ـ وهم من الكفار ـ ديار المسلمين وأحرزوا نصراً على المسلمين. وفي عام 518هـ/1124م هاجم الصليبيون مدينة صور وكانت للعبيديين، وسـار (بلدوين الثاني) أمير الصليبيين في بيت المقدس إلى الشمال لفك أسـر (بلدوين) و(جوسلين) فأسرع إليه (بلك الأرتقي)، فهزم جيشه وأخذه أسيراً أيضاً وضمه إلى بقية الأمراء الأسرى عنده. وفي عام 523هـ/1128م حاصر الصليبيون دمشق ولكن فشلوا في اقتحامها. وفي عام 527هـ/1132م جاءت أعداد كبيرة من التركمان من الجزيرة، واتجهوا نحو طرابلس فقاتلوا الصليبيين فيها … إلخ. وهكذا كان الهجوم على الصليبيين من الجنوب والشمال، ثم امتد على إمارة طرابلس في الغرب، فكانت هذه الهجمات تقض مضاجعهم وتقلقهم باستمرار. ثم بدأت تظهر دولة عماد الدين زنكي وتتوسع على امتداد الإمارات الصليبية. لقد بدأ “عماد الدين زنكي” في عام 529هـ/1134م يوجه هجماته على مراكز الصليبيين الواقعة شرق نهر العاصي ليكون الفتح تدريجياً، فاستولى على الأثارب وزردنا وتل أغدى ومعرة النعمان وكَفْر طاب وأغار على قنسرين وشيزر وحمص. وأغار نائب “زنكي” على الصليبيين عام 530هـ/1135م فوصل إلى اللاذقية، وفي سنة 531هـ/1136م أغار المسلمون على إمارة طرابلس فقتلوا أميرها وأسروا عدداً كبيراً من أتباعه. واستطاع عماد الدين زنكي أن يفشل خطة (حنا كوين) إمبراطور البيزنطيين في الاستيلاء على حلب، وامتاز “زنكي” عن غيره من أمراء المسلمين أنه جعل المعركة جهاداً في سبيل الله قبل كل شيء، وجعل توحيد المسلمين وصفوفهم خطوة ضرورية قبل خوض أي معركة ضد الصليبيين. واستطاع “زنكي” عام 539هـ/1144م أن يحاصر الرها وأن يستعيدها من الصليبيين، كما استولى على سروج. أما الحملة الصليبية الثانية فقد شجعها على الانطلاق فتح “عماد الدين” لإمارة الرها عام 539هـ، وعندما انطلقت هذه الحملة عام 542هـ/1147م كان “عماد الدين” قد توفي. اتجهت الحملة إلى بلاد الشام عن طريق البحر للخلاف الذي كان قائماً بين إمبراطور “القسطنطينية” وبين الصليبيين، وكان على رأس الحملة ملك ألمانيا (كونراد الثالث) وملك فرنسا (لويس السابع)، واتجهت الحملة نحو دمشق، وكان أميرها مجير الدين يخشى من سيطرة “آل زنكي” على مدينته ويعتمد على الدعم الصليبي فيما إذا اتجه “آل زنكي” نحوه. لما قتل “عماد الدين زنكي” حمل الراية الجهادية ابنه نور الدين محمود الذي حاصر الصليبيين في الرها ـ استطاعوا الاستيلاء عليها بعد موت عماد الدين ـ وهزمهم هزيمة منكرة، وقتل (بلدوين) وأصيب (جوسلين) إصابة بليغة، واستعاد منهم الرها. وواصل نور الدين جهاده فاستطاع في عام 542هـ/1147م أن يستولي على عدد من القلاع مثل: “بسرفوت” و”أرتاح” و”الأثارب” و”كفر لاتا” وغيرها. وفي عام 544هـ/1149م دخل نور الدين محمود حصن “أفاميا”، وسار نحو “أنطاكية” وحاصر في طريقه مدينة حارم، وصالحه أهلها على نصف أرزاقهم، غير أنه هزم عام 546هـ/1151م عندما سار لقتال (جوسلين) أمير الرها، ثم تمكن من أسره فيما بعد، وظل في أسره تسع سنوات، واستطاع أن يأخذ عزاز وعينتاب ومرعش. وباختصار فإن إمارتي الرها وأنطاكية الصليبيتين أصبح معظمهما في أيدي المسلمين. وفي عام 546 استطاع مسعود (سلطان سلجوقي) الاستيلاء على عينتاب ودلوك، واستولى نور الدين على الراوندان ثم على تل باشر. لقد كان اتجاه الحملة الصليبية نحو دمشق سببا مهما جعل أمير دمشق يستنجد بـ “نور الدين زنكي” ضدهم، وهذا ما هيأ لنور الدين احتلال دمشق عام 549هـ/1154م. واضطر ملك ألمانيا إلى التراجع بمن بقي من فلول جيشه المُمزَّق، حتى وصل إلى “نيقية” بعد أن كبده السلاجقة خسائر فادحة. كما تبعه ملك فرنسا بعد فشل حصار دمشق. ورجع الصليبيون ـ بعد أربعة أيام من حصار دمشق يجرون أذيال الهزيمة والفشل، بعد أن عجزوا عن تحقيق أي هدف من وراء تلك الحملة التي حشدت لها أوروبا رجالها وإمكاناتها، فلم تجنِ من ورائها إلا المزيد من الهزائم والمزيد من القتلى والدماء، وضاعت هيبة الصليبيين في الشام، وانحطت مكانتهم وضعف سلطانهم. ثم سار نور الدين إلى بعلبك ودخلها عام 550هـ/1155، ويعتبر هذا العام عام الوحدة وتجمع القوى الإسلامية ، كما أخذ “شيزر” عام 552هـ/1157م.
التاريخ الإسلامي لمحمود شاكر 6/269 ، والغزو الصليبي والعالم الإسلامي لعلي عبدالحليم محمود 89
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)العبيديون: تنسب الدولة العبيدية إلى مؤسسها (عبيد الله بن ميمون القداح اليهودي) الذي ادّعى الانتساب إلى إسماعيل بن جعفر الصادق من البيت الحسيني، ولقد استطاع عبيد الله أن يؤسس الدولة العبيدية في مكان ما من تونس، سماها (المهدية) في سنة 297هـ، وخلفه القائم ثم المنصور فالمعز – الذي انتقل إلى مصر سنة 362هـ. وهم رافضة من أصحاب المذهب الإسماعيلي الباطني، والباطنية هم الذين حرفوا الدين، ونقضوا قواعده، ولما عجزوا عن تحريف القرآن لجأوا إلى تحريف المعنى، فأوحى لهم الشيطان بفكرة غاية في الخبث واللؤم، تلك أنّ لكل نص ظاهرا وباطنا، فسرح خيالهم اللئيم في أوحال هذا الباطن، حتى ركزوا فيه كل الوثنيات، والخزعبلات، والإلحاديات، نقضوا كل العبادات، والفرائض، والأحكام مثال ذلك: الحلال عندهم: هو الواجب إظهاره من عقائدهم. والحرام: هو الواجب ستره وكتمانه. ومن ضلالات العبيديين أمرهم بنقش سبِّ الصحابة على جدران المساجد وفي الأسواق والشوارع والدروب، وكان أبرز وأضلّ حكامهم الحاكم بأمر الله الذي ادّعى الألوهية، ودعا إلى القول بتناسخ الأرواح. قال عنه ابن الجوزي: “ثم ازداد ظلم الحاكم حتى عنَّ له أن يدَّعي الربوبية، فصار قوم من الجهال إذا رأوه يقولون: يا واحد.. يا أحد.. يا محيي.. يا مميت قبحهم الله جميعا”. قال عنهم ابن كثير: (ظهرت في دولتهم البدع والمنكرات وكثر أهل الفساد، وقلَّ عندهم الصالحون من العلماء والعباد). وقال الذهبي: “وكان القائم بن المهدي شرّاً من أبيه، زنديقا ملعوناً، وكان العبيديون على ملة الإسلام شرّاً من التتر”.
(2)السلاجقة: نسبة إلى سلجوق بن تقتاق هو الجد الأكبر للبيت السلجوقي. وكان له ولدان هما: أرسلان وميكائيل، ومن أولاد الأخير جاءت سلاطين السلاجقة، حكموا بغداد مع الخليفة العباسي، وكان أولهم طُغْرل بك بن ميكائيل بن سلجوق. وهناك فرع من البيت السلجوقي جاهد البيزنطيين وأسس دولة في آسيا الصغرى، وكانت عاصمتهم قونية، وكانوا يسمون بسلاجقة الروم، تمييزاً لهم عن سلاجقة العراق والشام، ومن سلاجقة الشام عماد الدين زنكي وابنه نور الدين، حكموا من سنة 470هـ إلى 707 هـ.