الإنسان في هذه الحياة الدنيا يعيش حالة من الصراع مع أعداء ظاهرين، وآخرين لا يراهم، وربما كانوا أشد فتكًا به من أعدائه المشاهدين؛ ولذا فإنه لا بد أن يكون دائمًا متيقظًا حذرًا.
وإن أعدى أعداء المرء نفسه التي بين جنبيه فإنها تحثه على نيل كل مطلوب والفوز بكل لذة حتى وإن خالفت أمر الله وأمر رسوله، والعبد إذا أطاع نفسه وانقاد لها هلك، أما إن جاهدها وزمها بزمام الإيمان، وألجمها بلجام التقوى، فإنه يحرز بذلك نصرًا في ميدان من أعظم ميادين الجهاد. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ألا أخبركم بالمؤمن؟ من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب”. [الصحيحة:549].
فجهاد النفس من أفضل أنواع الجهاد، قال ابن بطال: “جهاد المرء نفسه هو الجهاد الأكمل، قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعـات:40]. ويقع بمنع النفس عن المعاصي، وبمنعها من الشبهات، وبمنعها من الإكثار من الشهوات المباحة لتتوفر لها في الآخرة”.
أنواع النفوس:
قرر المحققون من أهل العلم أن النفس واحدة، ولكن لها صفات وتسمى باعتبار كل صفة باسم، وبناء على ذلك ذكروا أن النفس باعتبار صفاتها ثلاثة أنواع، هي:
أولا: النفس الأمارة: وهي التي تأمر صاحبها بالشر وتميل به إلى اللذات والشهوات غير مبالية بالطريق الذي تنال به هذه الشهوات واللذات حراما كان أو حلالا، فهذه النفس مأوى الشرور ومنبع الأخلاق الذميمة.
ثانيا: النفس اللوامة: وهذه النفس تكلم عنها الإمام ابن القيم رحمه الله بكلام جميل ، قال: وأما النفس اللوامة، وهي التي أقسم بها سبحانه في قوله: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} فاختلف فيها، فقالت طائفة: هي التي لا تثبت على حال واحدة؛ أخذوا اللفظة من التلوم، وهو التردد، فهي كثيرة التقلب والتلون، وهي من أعظم آيات الله، فإنها مخلوق من مخلوقاته تتقلب، وتتلون في الساعة الواحدة -فضلاً عن اليوم والشهر والعام والعمر- ألوانًا عديدة..
ثالثا: النفس المطمئنة: وهذه قال عنها ابن القيم رحمه الله: فتسمى مطمئنة باعتبار طمأنينتها إلى ربها؛ بعبوديته ومحبته والإنابة إليه والتوكل عليه والرضا به، والسكون إليه. فالطمأنينة إلى الله سبحانه حقيقة، تَرِد منه سبحانه على قلب عبده تجمعه عليه، وتَرُد قلبه الشارد إليه، حتى كأنه جالس بين يديه؛ فتسري تلك الطمأنينة في نفسه، وقلبه ومفاصله وقواه الظاهرة والباطنة، ولا يمكن حصول الطمأنينة الحقيقية إلا بالله وبذكره: {الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ الله أَلَا بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}.
مراتب مجاهدة النفس:
ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله أن جهاد النفس أربع مراتب: حَمْلها على تعلم أمور الدين، ثم حملها على العمل بذلك، ثم حملها على تعليم من لا يعلم، ثم الدعاء إلى توحيد الله، وقتال من خالف دينه وجحد نعمه.
عدة المجاهدة
والمسلم وهو يجاهد نفسه لابد له من عُدَّة يتسلح بها، وأقوى الأسلحة التي يستخدمها المسلم في مجاهدة نفسه، سلاح الصبر؛ فمن صبر على جهاد نفسه وهواه وشيطانه غلبهم وجعل له النصر والغلبة، وملك نفسه فصار ملكا عزيزا، ومن جزع ولم يصبر على مجاهدة ذلك غُلب وقُهر وأُسر، وصار عبدا ذليلا أسيرا في يد شيطانه وهواه كما قيل:
إذا المرء لم يَغْلِبْ هواه أقامهُ.. … ..بمنزلةٍ فيها العزيز ذليلُ
وليعلم العبد أن الجنة حُفت بالمكاره وأن النار حُفت بالشهوات كما ورد ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لما خلق اللهُ الجنةَ؛ قال: يا جبريلُ! اذهبْ فانظر إليها، فذهب فنظر إليها وإلى ما أعدَّ اللهُ لأهلها فيها، ثم جاء فقال: أي ربِّ! وعزتِك لا يسمع بها أحدٌ إلا دخلها، ثم حفَّها بالمكاره، ثم قال : يا جبريلُ! اذهبْ فانظرْ إليها، فذهب فنظر إليها، ثم جاء فقال: أي ربِّ! وعزتك لقد خشيت أن لا يدخلها أحدٌ، قال: فلما خلق اللهُ النارَ؛ قال: يا جبريلُ! اذهب إليها، قال: فذهب فنظر إليها، ثم جاء فقال: أي ربِّ! وعزتِك لا يسمع بها أحدٌ فيدخلها، فحفَّها بالشهوات، ثم قال: يا جبريلُ! اذهب فانظرْ إليها، فذهب فنظر إليها، فقال: أي ربِّ! وعزتِك لقد خشيتُ أن لا يبقى أحدٌ إلا دخلها”.(أبو داود وغيره). فعلَى مَن أرادَ دخول الجنة أن يَجتازَ تلكَ المكارِهَ بالامتِثالِ لتلكَ الأوامرِ والنواهي.