أسباب رفض الاتفاق مع إسرائيل.. بعيدا عن فلسطين والصحراء المغربية

 

 

لن نتناول الاتفاق مع اليهود من زاوية ارتباطه بالقضية الفلسطينية، ولا بالمقايضة التي فُرضت على المغرب في إطار “الأرض مقابل التطبيع”، فمن كان معتبرا فليعتبر بما سبق من اتفاق أوسلو بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية تحت شعار “الأرض مقابل السلام”، فقد كانت نتيجته أن أخذت إسرائيل من ياسر عرفات السلام ولم تعطه أرضا ولا قدسا ولا ردت إليه الأراضي المغتصبة، بل استمرت إلى اللحظة في بناء مستوطناتها لإيواء اليهود، وهي مصرة على توسيعها، فأين اللاءات الثلاثة، وأين وعود كارتر وكلينتون فهل تكون وعود ترامب “التاجر” أصدق من سلفه “الصالح”!؟

لكن ليس من العقل ولا من الدين ولا من السياسة أن نكتفي في رفض التطبيع بمجرد الشعارات والخطابات، كما ليس من الحزم أن نحسن الظن ونثق في الوعود، ونركن إلى القوة التي يتمتع بها من نحسبهم حلفاءنا، فالتاريخ علمنا أن لا حلف مع الغرب جميعه يهوديِّه ونصرانيِّه وعلمانيِّه.

وما علينا الوعي به هو أن للتطبيع ظاهر وباطن، فظاهره استئناف العمل بمكتب الاتصال مع دولة إسرائيل التي لها مواطنوها ومصالحها بالمغرب، وبيننا وبينهم “مواطنون” مشتركون، لكن لهذا الظاهر باطن هو فتح أبواب المغرب لولوج البنيات العميقة فيه لفائدة الشركات الاقتصادية، والمراكز الثقافية والبحثية حتى تمكّن لما سمي بالمكون العبري في دستور2011، الذي يلعب بالولاءين بشكل مكشوف، فلن يقف في وجهه أي شيء بعد تطوير المفاهيم المرتبطة بهذا المكون والتي ستترجم إلى قوانين، تسمح لليهودي الصهيوني الذي سبق أن عمل في جيش الاحتلال، أن يكون مديرا أو رئيس بلدية أو وزيرا، ولم لا رئيسا للحكومة، عندها لن يرخص لهولوكوست مراكش الذي بناه الصهيوني الألماني متحديا الجميع، والذي لم تستطع السلطات محوه من الأرض فقط، بل سنرى لكل جهة هولوكوستها الخاص.

إن قرار التطبيع لا بد أن يكون بعده مئات القرارات وآلاف المشاريع الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، لذا فالوطن والدولة والشعب يحتاج كل منهم إلى من سيجابه هذا الوجود/ الغزو الصهيوني للمغرب، ليس بالتنديد فقط، ولكن بالعمل في شتى الميادين، فكُلّ فراغ وكل قوة غير مشغلة سيستحوذ عليهما الرأسمال الكبير الذي سيغزو الاقتصاد المغربي، الذي لن يكون بعيدا عن الثقافة والدين والمجتمع والسياسة.

فالعقلاء الذين رفضوا الاتفاق مع الكيان المغتصب المسمى دولة إسرائيل، لم يرفضوها فقط لأنها كيان مغتصب لقلب المسلمين في الشام، ومحتل غاشم للقدس والمسجد الأقصى ولأوقاف المغاربة، ولكن لكونها كيانا أخطبوطيا لا يشتغل كدولة بل كمجموعة منظمات تربط بينها حركة دولية هي الحركة الصهيونية العالمية، ولا تعتبر إسرائيل سوى واجهتها السياسية.

صحيح أن الدول القوية لا تخاف الاتفاقيات الدولية مع أي دولة كانت بل تسعى إليها، لأن لها القوة الكافية للإلزام، فالجلوس إلى طاولة المفاوضات من أجل عقد الاتفاقيات، لا بد له من قوة تسند المفاوضين، حتى يستطيعوا قول لا بكل جرأة لكل ما يضر بالمصالح الوطنية والقومية، فهل لدينا تلك القوة في المغرب؟

سنلقي نظرة عن معنى القوة التي تحتاجها الدول حتى تكون قوية، والتي تتأسس على أمور أهمها وأولها:

1- – جيش رادع مسلح تسليحا ذاتيا وطنيا يصنعه له شعبه ودولته، حتى لا يحتاج عدوَّه أو منافسه في تعويض قطع تجهيزاته العسكرية، فضلا عن قطع الغيار والذخيرة، فليس هناك صفقات لأسلحة نوعية متميزة الأثر، إلا ويليها تذييل بشروط تؤثر على القرارات السيادية والاصطفافات الدولة.

2- – اقتصاد قوي يعلم من نجلس إليه قصد الاتفاق، أن اقتصادنا يستطيع الصمود في أي مواجهة عسكرية للدفاع عن الأمن القومي، فلا نخضع لأي ابتزاز أو امتيازات يمكن أن تخول لاقتصاد الدول المفاوضة هيمنة ولو جزئية على الاقتصاد الوطني.

3- – استخبارات قوية نافذة في محيطها الإقليمي والوطني والدولي تؤمن العمق الاستراتيجي وتستشرف الأحداث قبل وقوعها، وتؤمن الجبهة الداخلية للبلاد من الاختراق الأجنبي، وتضع رؤية تشخص مصلحة البلاد معضدة بالمعلومات الحاسمة في مختلف القضايا والملفات.

4– هيئة ديبلوماسية قوية تعتمد على سفراء يفهمون في الاقتصاد وفتح الأسواق وتمثيل بلادهم تمثيلا ثقافيا وسياسيا، يعطي لتجارها وطلبتها وباحثيها القوة والسمعة الطيبة التي تفتح لهم الأسواق للبيع والشراء وعقد الصفقات الكبرى، وتخول لهم ولوج مراكز البحث والجامعات العلمية المرموقة.

-5- وحدة وطنية متماسكة تمنع أي اختراق استخباراتي لمكونات البلاد السياسية والإثنية، وهذه الوحدة هي نتاج سياسة رشيدة تحقق الاندماج الاجتماعي، ولا تلعب الدولة بشأنها على التناقضات والتوازنات الميكيافيلية.

6- – نظام حكم يستمد قوته الأساسية من ولاء كامل للشعب، يحقق الانسجام ولا يربك الجبهة الداخلية، ويكون همه تحقيق العدالة الاجتماعية التي تنتج الكرامة والتي بدورها هي الأساس لكل نهضة وتقدم واللذان هما أساس القوة، وبهذا تكون قوة الدولة نتيجة عدلها وعدالتها، اللذان لن يتحققا إلى بخضوع الجميع لمبدأ المراقبة والمحاسبة.

على ضوء أساسات القوة المذكورة يمكن أن نفسر لماذا يتخوف جانب مهم من النخبة المثقفة والعالمة من اتفاقيات “التطبيع”؟

فهل نحن مقتنعين بأننا نتوفر على هذه الأساسات؟

فبالنسبة للجيش، لا نقلل من قيمة الجيش الوطني وقدرته القتالية وحنكة قادته، ولا نتحدث عن الإخلاص والكفاءة، وإنما حديثنا عن قدراتنا في الصناعات الحربية، وعن مستوانا في البحث العلمي العسكري، فلا أظن أن أحدًا يناقش في كوننا نعوِّل على أمريكا وأوربا وروسيا في تسليح جيشنا، بل حتى على إسرائيل، وأن كل حرب محتملة لا يمكن إلا أن نخضع فيها للمصالح الاستراتيجية للدول التي يعتمد عليها جيشنا في التسلح، وقد رأَينا كيف فُعل بجيش العراق العتيد، رغم أنه كان من أقوى جيوش العالم الإسلامي، ورأينا كيف أن تركيا رغم كونها في حلف الناتو مع الأمريكان، وعضو معهم كذلك في مجموعة 20 Gولها اقتصاد منافس بقوة لاقتصاد الدول الكبرى وأفضل في الترتيب من دول كثيرة في أوروبا، إلا أن هذا كله لم يشفع لها مع أمريكا ففرضت عليها عقوبة لأنها تجرأت واشترت من روسيا منظومة “إس 400″، التي ترى فيها أمريكا تهديدا لحليفتها الأولى “إسرائيل”.

أما بالنسبة للاقتصاد الوطني فلا داعي للكلام عنه، فهو على حافة الإفلاس، وكله قائم على القروض الخارجية من الدول التي لها أطماع في مقدرات المغرب، حيث صرح مكتب الصرف المغربي، وهو المؤسسة المكلفة بإحصاء التبادل التجاري مع الخارج: “إن عجز الميزان التجاري بلغ 208.99 مليار درهم (21.7 مليار دولار) في 2019″، ولا يتغلب المغرب على هذا العجز إلا بالمزيد من القروض، أو ببيع جزء من أسهم الدولة في المؤسسات المنتجة مثل اتصالات المغرب، أما الفساد والرشوة، فمستفحلان بل وصل التواطؤ عليهما من كل طبقات المجتمع سواء في ذلك المواطنون أم الإدارة.

أما “الباطرونا” فمصالحها متحدة مع شركات الدول الأجنبية وعلاقتها بـ”إسرائيل” طبيعية من زمان، فهي باطرونا مغربية بالاسم والاستغلال، ولا علاقة لها بالبلاد، سوى كونها تعتبرها بقرتها الحلوب، لهذا نجدها لا تشجع البحث العلمي ولا تؤسس الجامعات ولا تساهم في الثقافة، إلا إذا تعلق الأمر بمهرجانات التفاهة والتبليد، وحتى الإشهارات فلا تعطيها إلا للمؤسسات التي تعتمد التغريب منهجا لها أو خطا تحريريا يحكم إنتاجاتها.

أما الاستخبارات فنحتاج إلى أجهزة استخباراتية لا تدبر الجانب الأمني الآني فقط، وتقطع مع أسلوب توسيع دائرة الاشتباه، بل تعمل وفق رؤية شاملة تنطلق من التاريخ والهوية إلى بناء المستقبل المتوسط والبعيد، وهذا يجعل تدبيرها لملف الأمن لا يؤثر على اللحمة الوطنية، ولا يخلق عداوات للدولة مع مواطنيها، كما ينبغي عليها أن تنوع اهتماماتها وتقويها؛ مثل اهتمامها بالبحث العلمي العسكري، وكذا البحث العلمي المدني المرتبط بالصحة العامة في بعدها الاستراتيجي الأمني، فالعلم أصبح عند الدول من صميم الأمن القومي، نفس الشيء في الجانب الاقتصادي ينبغي تدريب رجالها لصد هجومات الاستخبارات الأجنبية التي تستهدف التحكم الاقتصادي في بلادنا، فأمريكا وإسرائيل لها قطعان من الضباع الاقتصاديين هم من يكشف للدولة مَقاتل اقتصادات الدول المنافسة والمستهدفة، ويعمل على الإطاحة بها، ويقوم بتنفيذ العمليات لإسقاط بورصاتها وتدمير شركاتها الكبرى، هذا ناهيك عن الابتزاز الدائم للحصول على الصفقات الكبرى.

أما الديبلوماسية، فديبلوماسيتنا هي ديبلوماسية الشاي وكعب غزال والكسكسو، فالسفراء ينبغي أن يتوفروا على الكفاءة والمهارة في تنفيذ الخطط والاستراتيجيات التي تعود بالقوة على الاقتصاد ونشر ثقافة البلاد واستثمار الرأسمال اللامادي في البلدان الأخرى  وتحويله إلى ولاءات وثروات، إننا نحتاج إلى سفارات تدير ملفات ثقافية وعلمية تمتح من هويتنا وثقافتنا المغربية الحقيقية وليس الفولكلورية الاستعراضية فقط، مع الاهتمام الكبير بمصالح المواطن المهاجر المغربي الذي ينبغي أن تجعله على رأس قائمة اهتماماتها، فالمواطن الأجنبي في أي دولة قيمته التي تعطيها له البلدان المضيفة هي فرع عن قيمته عند دولته الأم، ولهذا نجد المغاربة يهينون أنفسهم أمام السياح الأجانب من فرط الخدمة والسخرة، وليس بدافع شيمة الكرم كما يحلو للبعض أن يفسر هذا السلوك، فالإحساس بالدونية أمام الأجنبي معلوم بين المغاربة، فقد رسمت له دُوله المحتلة صورة شامخة في المخيال الجمعي في بلدان العرب، فالأجنبي بالضرورة غني ومثقف ولو كان أجهل من حمار أم عمرو وأفلس من صعلوك في فلاة.

فهل في وضع مثل هذا يمكن ألا نتخوف ونرتاب من حملة التطبيع التي تمد إزارها النتن على وجوه الدول العربية؟

إن التطبيع اليوم يبدو مريبا جدا، لأنه يدخل مرحلة الانبطاح والهيمنة، فالصهيونية الآن بعد إقامة الوطني القومي وتمكنها من اختراق العالم الغربي لم تعد في حاجة لتهجير اليهود إلى فلسطين لتكوين شعب صهيوني يُكَمِّل أركان الدولة بالمفهوم الدستور المتعارف عليه، بل كل المؤشرات تدل على أنها في هذه المرحلة وضعت استراتيجية جديدة تتأسس على إعادة الانتشار بغية الهيمنة القطرية في داخل الدول المطبعة معها، تمهيدا للهيمنة السياسية الأوسع التي تتطلع إليها بعد استكمال تأسيس الشرق الأوسط الكبير، الذي وضع خريطته المستشرق الصهيوني برنار لويس، وما تدمير جيوش أكبر الدول وأغناها إلا تمهيد لهذه الخريطة؛ ومن يفرق بين اليهود وإسرائيل والصهيونية العالمية واشتغال كل منهم وفق قاعدة توزيع العمل، يَعلم أن مرحلة التطبيع التي بدأت بعد الانقلابات المضادة خطيرة جدا، فالتطبيع يوفر الجو للصهيونية العالمية حتى تغزو كل مَواطن القوة في المجتمع والدولة.

نسأل الله أن يحفظ البلاد من كل سوء ويلهم القائمين عليها الرشد والسداد.

وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *