إشكالية الحرية في مجتمع إسلامي (6) محمد زاوي

مدخل:

ليس نقاش الحرية بالنقاش السهل في مجتمع إسلامي أخذت تخترقه القيم العولمية. إننا أمام موضوع اتخذته بعض التيارات (العلمانية/الحداثوية) مطية لتفكيك المجتمع، خدمة لأجندات استعمارية أجنبية غربية. لا بد إذن من إثبات حقنا في الحرية، كمسلمين، بالشرع والعقل معا. وهذا ما ستحاوله هذه السلسلة، بعد سلسلة سبقتها في موضوع “النشاط الجنسي للإنسان”.

المحور الثالث: الحرية في الإسلام (تتمة)

ولنجب ثانية على السؤال الثاني: كيف يدل القرآن على المثال المذكور؟

“الحرية في إطار الضرورة”، هذا هو المثال الذي يحمله القرآن بين ثناياه، وهو حاضر في تنظيم: العقائد والأخلاق والعبادات والمعاملات والنكاح والجنايات…

لا يدرس القرآن إلا بعلوم الشريعة، ولذا فهي مطلوبة لفهم معانيه واستنباط أحكامه.

أولا: “المثال” في العقيدة (ضرورة المؤمن التصورية)

العقائد الإسلامية كلها قيود عملية (أعمال القلوب) ونظرية تصورية (أعمال العقول). فلا يتعلق المسلم إلا بالله، ولا يتعلق به إلا كما دلت على ذلك أدلة الشريعة الإسلامية.

أما عقيدة “القضاء والقدر”، فهي مجال خصب لاكتساب القابلية للإيمان بالحرية في إطار الضرورة.  مع “مراتب القضاء والقدر (العلم، الإيجاد، الكتابة، القضاء)” يعرف المسلم أن ما قضي به ضرورة لا مفر منها، وفي ذلك ورد قوله تعالى: “وما تشاؤون إلا أن يشاء الله”. ومع أقسام القضاء والقدر يعرف المسلم أن من القضاء ما يصد ويرد (الذنب والمعصية)، وفي ذلك ورد قوله تعالى: “فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر”.

ثانيا: “المثال” في أصول الفقه (ضرورة الفقيه النظرية والتطبيقية)

غايتا علم أصول الفقه هما: تحديد الأدلة وتعيينها، ومعرفة طرق استنباط الأحكام منها.

وكل ذلك لا يتم إلا بقيود نظرية وتطبيقية، وهي التي من دونها لا يصبح للحديث عن “الأصول” معنى يعتبر.

فعلم أصول الفقه يدل على تلك القيود ويجعلها من صميم ما يهتم به، إذ هو “العلم بالقواعد (وهي ما يقيد التوصل المذكور) التي يتوصل بها إلى الأحكام الفرعية العملية المكتسبة عن أدلتها التفصيلية”.

فهل يختار الفقيه من الأدلة ما يشاء بلا قيد؟

وهل ينظر الفقيه في الدليل بشكل عشوائي؟

إن للدليل تعريفا، وإن للحكم الشرعي تعريفا.

في كل تعريف منهما قيد، وللفقيه اختيار في تفاصيل الدليل والحكم وفق هذا القيد.

إن الدليل هو “ما يمكن التوصل من خلال النظر الصحيح فيه إلى المطلوب (وهو الحكم الشرعي)”.

فلا يتوصل الفقيه إلى الحكم الشرعي إلا بالأدلة المتفق عليها (القرآن والسنة والإجماع والقياس)، وهذه هي ضرورته (الفقيه).

ولا يتوصل إليه في حالات كثيرة إلا بالعودة إلى الأدلة المختلف حولها (ومنها: شرع من قبلنا، قول الصحابي، عمل أهل المدينة، الاستحسان، الاستصحاب، المصلحة المرسلة…)، وفي هذا يتدخل باختياره (الفقيه) حسب مذهبه أو غير ذلك.

وإن الحكم الشرعي هو “خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء (الطلب: فعلي وتركي) أو بالتخيير (الإباحة) أو بالوضع (السبب، الشرط، المانع، الصحيح، الفاسد، الرخصة، العزيمة، الأداء، القضاء، الإعادة)”.

فلا يتوصل الفقيه إلى الحكم بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع إلا بتحديد الأدلة أولا، ثم باستنباط الأحكام منها وفق القواعد المعروفة (وأهمها قواعد “دلالات الألفاظ”).

وفي الدلات مذاهب واختيارات يردها الفقيه حسب اختياره، ويأخذ منها بحسب حاجته وضروراته الأخرى (ضرورات الواقع لا ضرورات القواعد).

ثالثا: “المثال” في الفقه (ضرورة المسلم الفقهية)

ينظم الفقه الإسلامي العبادات، فيحدد أحكام: الوضوء والغسل والصلاة والصيام والاعتكاف والزكاة والحج والعمرة…

وينظم الأسرة، فيحدد أحكام: النكاح والطلاق والرجعة والظهار والإيلاء واللعان والخلع والرضاع والعدة والنفقة والاستبراء…

وينظم الأموال، فيحدد أحكام: البيوع وما شاكلها والشفعة والصدقة والحبس والرهن والعارية والوديعة والتركة…

وينظم المجتمع، فيحدد أحكام الجنايات (“أحكام الدماء والحدود”، بتعبير عبد الله بن أبي زيد القيرواني).

وينظم سلوك الأفراد والعلاقات الأخلاقية بينهم، فيحدد آداب: الطعام والشراب واللباس والسلام والاستئذان…

الحرية للفرد المسلم لا معنى لها إلا إذا مورست في إطار الضوابط والأحكام التي حددها الفقه، وتلك هي ضرورتها الفقهية.

(يتبع)

هوامش:

(1): لم يعبر عنه القرآن بهذه “العبارة”. ولكن من يلتزم أحكام القرآن، يكتسب مباشرة القابلية لتقييد الحرية والإيمان بها في إطار ضروراتها التاريخية وغيرها.

(2): أبو الطيب مولود السريري، سلسلة دروس في شرح “الورقات” لأبي المعالي الجويني، الدرس الأول.

(3): سلسلة دروس في أصول الفقه، من تقديم الرشيد أحمد: عضو هيئة التدريس في جامعة الإمام بالسعودية.

(4): نفسه.

(5): راجع متن الرسالة ل: عبد الله بن أبي زيد القيرواني.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *