إشكالية الحرية في مجتمع إسلامي (7) محمد زاوي

مدخل:

ليس نقاش الحرية بالنقاش السهل في مجتمع إسلامي أخذت تخترقه القيم العولمية. إننا أمام موضوع اتخذته بعض التيارات (العلمانية/الحداثوية) مطية لتفكيك المجتمع، خدمة لأجندات استعمارية أجنبية غربية. لا بد إذن من إثبات حقنا في الحرية، كمسلمين، بالشرع والعقل معا. وهذا ما ستحاوله هذه السلسلة، بعد سلسلة سبقتها في موضوع “النشاط الجنسي للإنسان”.

 

المحور الثالث: الحرية في الإسلام (تتمة)

رابعا: “المثال” في مقاصد الشريعة (ضرورة المقاصد النصية)

يمكننا أن نستنبط من تعريف (1) “مقاصد الشريعة الإسلامية” ما يلي:

– المقاصد هي غاية الشريعة وروحها وسرها.

– المقاصد هي ما يتعلق به الخطاب والتكليف الشرعيين معا.

– المقاصد ليست شيئا واحدا، بل منها ما هو مقصد للشريعة جملة، ومنها ما هو مقصد للأحكام تفصيلا.

– لم تكن الشريعة إلا لمصالح العباد، وهي نفسها المصالح التي لا يعرفها حق المعرفة إلا الله تعالى.

ونلخص كل هذا في التعريف الآتي:

المقاصد هي السر في الشرع والأحكام، حيث تلتقي إرادة الله بامتثال المكلف، لتتحقق مصلحة العباد ويرضى الله تعالى عن الجميع.

ومن هنا يتضح أن لا مجال للاستغناء بالمقاصد عن الأحكام المستنبطة من الأدلة، وتلك هي الضرورة النصية للمقاصد.

خامسا:“المثال” في السلوك إلى الله (ضرورة السالك التعبدية)

لن تجد أهل السلوك إلا طامحين إلى حريتهم الخاصة، وهي التي لا تتحقق في نظرهم إلا بالعبودية الخالصة والمنقادة لله تعالى.

سعيد رمضان البوطي هو من أكبر المتصوفة المعاصرين، وله في ذلك مداخله السلفية والفقهية والفلسفية والأخلاقية… ومن مداخله الفلسفية للسلوك إلى الله، “وعيه بالضرورات”.

فما هي الضرورات لدى البوطي؟

إنها في مجملها ثلاث ضرورات:

– قوانين الكون والطبيعة.

– قوانين الإنسان الخارجية.

– مشيئة الله التي فرضت كل ذلك وحكمت على الإنسان بالاختيار وفق الضرورات… (2)

لا حرية لمن ضل عن الطريق المستقيم، ولا حرية ولمن سلك مسلكا غير المسلك الذي وضعه الله تعالى هداية للناس أجمعين. هكذا يزعم البوطي، وفي ذلك يقول:

“تعال أيها العبد المملوك لخالقه الأوحد جل جلاله، المتحرك في قبضته وداخل سلطانه، فالزم باب العبودية الراضية لرب الأرباب، قبل أن تشرد عنه إلى شقاء الغواية والاضطراب. تعال، فلا مفر من الله إلا إليه، ولا ملاذ من عذابه إلا بالخضوع لجنابه والرضا بسلطانه. ولا عليك ممن نسي ذاته فاستكبر فوق قمامة من الجهل أو اعتلى متساميا فوق عيدان من الوهم. فلسوف يقدم الجميع إلى الله من باب العبودية التامة الراضية له صاغرين مطأطئين”. (3)

التشرد والشقاء والاضطراب والغواية والجهل والوهم… كلها صفات تدل على ضيق حرية صاحبها.

لن يتحرر من لم يتعبد لله وحده على الوجه المطلوب، وذلك لأنه خالف “ضرورة السالك التعبدية”.

لقد ضبط البوطي نفسه حيال الفتنة السورية، ولقد كان أكثر حكمة من الذين وجدوا أنفسهم في استراتيجية “سياف الشرق الأوسط” دون أن يعوا ذلك.

فهل ذلك ناتج عن وعي البوطي بضرورة الدولة السيادية والمستقلة (أولوية السيادة والوحدة على الحرية السياسية كطوبى)؟

وهل ارتبط هذا الوعي بقابلية الفكر الصوفي لاكتساب “نظرية الحرية”؟

هذا ما نزعم حصوله.

وهو ما حصل لشخصين بارزين:

– هيجل الذي بدأ مساره الفكري في “مدرسة اللاهوت”، فانتهى به المطاف وقد استوعب “الحرية في إطار الضرورة” (هنا بدأت نظرية الحرية). (4)

– علال الفاسي الذي بدأ مساره الفكري والسياسي قريبا من الزوايا والتعليم العتيق والسلطة، فانتهى به المطاف وقد تحيز لنظرية هيجل في الحرية بشكل واضح. (5)

سادسا: المثال في السيرة النبوية الشريفة (مشروع التحرير المحمدي وضروراته التاريخية)

“السيرة النبوية هي التفسير العملي للقرآن”، هكذا قال بعضهم.

وهي كذلك، لأنها الوعاء الواقعي للمنهج العقدي والعملي الذي جاء به القرآن الكريم.

فكيف كان الخطاب في مكة؟ وكيف جاء وفق شروط مخاطَبيها التاريخية؟

وكيف كان الخطاب في المدينة؟ وكيف وافق ما يطلبه المشروع المحمدي لنشر الدعوة وتوسيع نموذج الدولة العربية الإسلامية؟

******

لقد شكل القرآن بالنسبة لمخاطَبِيه المكيين مشروعهم التحريري، فكان ذلك في شروطهم التاريخية لا خارجها.

لقد كانوا مشتتين بين التصورات العقدية والآلهة الزائفة، فكان التوحيد مشروعهم التحريري لتحقيق الوحدة العقدية والسياسية معها.

وقد كانوا حبيسي تفاوتهم الطبقي بين تجار مكة وسادتها من جهة، والموالي والعبيد والمستضعَفين من جهة أخرى. فكان القرآن سبيل هذه المجموعة الأخيرة إلى المطالبة بالعدل، ومن ثم إلى مواجهة الظلم والتمرد على الظالمين.

إن في تعذيب بلال بن رباح الحبشي من قبل أمية بن خلف، وفي تعنيف عبد الله بن مسعود قارئا للقرآن، وفيما ابتلي به آل ياسر… إن في ذلك لدلالة على عظيم الأثر الذي خلفه القرآن في نفوس أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فما كان منهم إلا أن انتفضوا انتفاضة سديدة.

فما سبب سداد تلك الانتفاضة؟

إن سبب سدادها الأول هو أنها جاءت موافقة لشروط مخاطَبِيها التاريخية، ولحكمة وعبقرية قائدها وسداده بالوحي (لم يهمل الوحي الشروط التاريخية لعرب مكة، وذلك هو جوهر أسباب النزول كعلم من علوم القرآن).

لقد انطلقت الدعوة الجديدة في مكة، وتعززت في المدينة كما كان منتظرا من لدن ربها ورسوله (محمد صلى الله عليه وسلم صاحب الدعوة).

ولو أن الأسباب لم تكون معتبرة، ولو أن الضرورات التاريخية لم تكن مقدرة… لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه، ولما بحثوا لأنفسهم عن ملاذهم الآمن حيث:

– تحرير الممارسة الدعوية.

– تقييد العقائد والشعائر بمبادئ الوحي وضوابطه (أي بما يطلبه المشروع المحمدي من انضباط والتزام).

– تنظيم الأسرة.

– إنشاء الدولة.

– تدبير المعاش والموارد بالقسط.

– الاستعداد للغزو…

هكذا كان التحرير في المدينة، وهكذا كان وفق شروطه التاريخية. (يتبع)

 

هوامش:

(1): اعتمدنا هنا تعريف أحمد الريسوني من كتابيه: “الفكر المقاصدي: قواعده وفوائده” و”مدخل إلى مقاصد الشريعة “.

(2): محمد سعيد رمضان البوطي، حرية الإنسان في ظل عبوديته لله، دار الفكر، الطبعة الأولى، 1992.

(3): نفسه، ص 53-54.

(4): راجع كتاب “مفهوم الحرية”، لعبد الله العروي.

 

(5): راجع كتاب “الحرية”، لعلال الفاسي.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *