إشكالية الحرية في مجتمع إسلامي (5) محمد زاوي

مدخل:

ليس نقاش الحرية بالنقاش السهل في مجتمع إسلامي أخذت تخترقه القيم العولمية. إننا أمام موضوع اتخذته بعض التيارات (العلمانية/الحداثوية) مطية لتفكيك المجتمع، خدمة لأجندات استعمارية أجنبية غربية. لا بد إذن من إثبات حقنا في الحرية، كمسلمين، بالشرع والعقل معا. وهذا ما ستحاوله هذه السلسلة، بعد سلسلة سبقتها في موضوع “النشاط الجنسي للإنسان”.

 

المحور الثالث: الحرية في الإسلام

1-أسئلة لا بد منها

هل في الإسلام منْ حرية؟

أليس الإسلام دين تشدد وقسوة واعتداء على حريات الناس كما يحلو لبعضهم أن يروج؟

ألم يتجاوز العصر أحكام الإسلام وضوابطه؟

أليس من العيب التذكير بأحكام الإسلام كلما تكلما عن الحرية في عصر “العلم والعقل والحداثة”؟

أليس هذا هو المجال الخصب للحديث عن الأدوار التي يلعبها الدين في حياة الإنسان؟

2-الحرية في القرآن الكريم

لقد وردت “الحرية” في القرآن بمشتقاتها، وليس بلفظ “حرية”.

فقد قال الله تعالى: “يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى، الحر بالحر”. (البقرة: 178).

وقال تعالى: “وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة”. (النساء: 92).

وقال أيضا: “إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا”. (آل عمران: 35).

لم يعلق علي محمد الصلابي على هذه الآيات مستحضرا سياقاتها التاريخية (أسباب نزولها) ولا تفاسيرها في كتب التفسير المعروفة. وإنما قال: “وهكذا فإن الحرية في القرآن العظيم وردت بلفظ الحر والتحرر، وذلك بمعنى الخلوص من كل قيد، ومن كل شرك، ومن كل حق لأحد غير الله تعالى، أو بلفظ: الحر، بمعنى: المعاناة للاستقامة على منهج الله وعلى سنته في خلقه، فهي ليست القدرة على الفعل فحسب، بل والقدرة على الترك، فهي تعني أن يختار الإنسان فيحسن الاختيار، وليس ذلك إلا للإرادة الإيمانية الحرة، كما جاءت بمعنى: خلوص القلب من رق لغير الله”. (1)

إن القرآن الكريم لدال هنا على ما فتئنا ننبه القارئ إليه منذ أول وهلة: ضرورة استحضار السياق التاريخي لما جاء في القرآن الكريم، وذلك من خلال السياق الذي وظف فيه القرآن مادة “ح-ر”.

فنظام الرق كان من عرف العرب قديما، وفي ذات السياق جاء لفظا: “الحر بالحر” و”تحرير رقبة”.

والتحرير كان رائجا بين العرب بمعنى “تخليص الشيء من اضطرابه وفساده”(2)، وفي ذات السياق جاء لفظ “محررا”.

أما توظيف الرائج للإخبار بأخبار من سبق، والعرب قوم اهتمام بالأخبار الماضية، فتلك دلالة أخرى على اهتمام القرآن الكريم بالسياق التاريخي الذي نزل فيه.

فإذا كان لتوظيف المادة سياقه الخاص، فما بالك بورود معنى خاص للحرية.

لم ترد الحرية في القرآن كمفهوم كما هي الآن، ولكنها حتما حاضرة فيه كواقع وكسلوك مدعوّ إليه وكمعنى خاص يعكس حاجة العرب التاريخية والمثال الخالد للناس أجمعين.

فما هي هذه الحاجة التاريخية الخاصة بالعرب إذن؟

وما هو هذا المثال الخالد الصالح للناس أجمعين في كل زمان ومكان؟

لن نجد الحاجة التاريخية إلا في واقع العرب الاقتصادي والسياسي والثقافي، ولن نجد المثال إلا في “حاجة كل حرية إلى تقييد” في كل مرحلة من مراحل التاريخ.

فكيف وافق القرآن حاجة العرب إلى التحرر؟ ومن أي شيء حررهم؟

وكيف يدل القرآن على المثال المذكور؟

فلنجب الآن على السؤال الأول: كيف وافق القرآن حاجة العرب إلى التحرر؟ ومن أي شيء حررهم؟

لن نجيب على هذا السؤال إلا بمعرفة الوضع الذي كان عليه العرب قبل مجيء الإسلام، وتلك حكاية أخرى من البحث والتنقيب والدراسة في مدارس التاريخ والسيرة…

لم يخصَّص البحث لهذه الغاية، فحسبنا أن نوضح القصد ونوجه القارئ لمزيد من الاجتهاد في البحث عما يُتَصوَّر به “معنى الحرية في القرآن الكريم”. وذلك لبلوغ غير المألوف، وغير المعتاد مما لا يجدي ولا ينفع بعضه في أحيان كثيرة.

هناك من يحاول أن يقنعنا بأن ما كان رائجا لدى “عرب ما قبل الإسلام” لا يقل انتظاما وانضباطا ورقيا مما كان رائجا لدى “عرب ما بعده”، وفي ذلك يؤيدهم بعض الدعاة والوعاظ وشراح السيرة النبوية إذا رأيتهم يثنون على بعض قيم عرب “الجاهلية” بلا قيد ولا تعليق.

لقد كان في العرب من القيم النبيلة الحميدة ما هو معلوم لا يمكن إنكاره، وعليها بنى الإسلام (فهي من مقدماته). إلا أن ما يميز الإسلام هو نقله هذه القيم من قيم قبلية إلى قيم تفرضها وتشجع عليها دولة، أي من الخضوع لسلطة الطبيعة إلى الخضوع لسلطة الدولة.

لقد حدث ذلك على مراحل، وهذا صحيح. وقد أُطِّرت القيم بالدولة على وجه التدريج، وذلك مما لا ينكره أحد.

إلا أن الدولة هي النتيجة الواقعية العظمى التي أخرجها الإسلام من رحم “الإمكانات التاريخية لشبه الجزيرة العربية”، فتغير تاريخ هذه المنطقة وتاريخ العالم معها أيضا.

إن حاجة العرب إلى دولة قومية هو ما وافقه القرآن الكريم، وإن واقع ما قبل الدولة هو ما حررهم منه.

لقد خدمت الدعوة الدولة، ثم خدمت الدولة الدعوة. وقد احتاجت الدولة إلى تجديد في التفكير والعقائد والسلوك، ثم احتاج الحفاظ على كل ذلك إلى دولة.

إن هذه العلاقات الجدلية هي التي يعكسها المعنى الخاص للحرية في القرآن بدقة، وهي نفسها التي تطلب منا المزيد من التفصيل.

لقد كانت قبائل الجزيرة العربية، قبل نزول القرآن، أمام عدة إمكانات تاريخية منها:

– “تحول القبائل المتصارعة إلى دولة مركزية متوسعة.

– دوران التناقضات في حلقة مفرغة لبعض الوقت.

– انشطار الجزيرة العربية إلى قسمين: الأول تابع للجار البيزنطي، والثاني تابع للجار الفارسي.

…” (3)  

إن الإمكان الأول هو الذي خرج إلى حيز الوجود، وهو الذي على أساسه (وعلى أساس بث المثال في أجيال كل عصر) صيغ “التصور القرآني للحرية”.

لقد كان العرب يعيشون:

– الفرقة السياسية والتشتت القبلي.

– الضعف العسكري والسياسي أمام العدو الخارجي (فارس، بيزنطة، الحبشة).

– حاجة فئة التجار في مكة إلى التقدم والتوسع والأسواق.

– التعدد العقدي والإيديولوجي، ما يحيل على تفكك ثقافي لا يترك مجالا للوقوف في وجه التحديات التي تفرض نفسها بقوة.

– ضعف العزائم وتدني الاهتمامات والتعلق بالشهوات (الانحلال الأخلاقي)… (4)

القضية قضية فرقة إذن، فلا بد من توحيد عقدي وسياسي.

إن “التوحيد” (ونفس الشيء بالنسبة للعقائد الإسلامية الأخرى) ليعبر في الإسلام عن غايتين:

– موافقته للحقيقة الغيبية.

– ما ينتج عنه في واقع الناس من تصرفات فردية وثورات اجتماعية وسياسية.

إنه يدل في الأصل على وحدة الخالق المعبود المتعالي بأسمائه وصفاته، وينقل حال الملتزمين الموحدين من حال إلى حال كما وقع في شبه الجزيرة العربية أيام الدعوة النبوية الشريفة.

لقد كان التوحيد أول حكم عقدي يفرض على العرب، فجاءت بعده الأحكام الأخرى تباعا ليستقر النظام ويبدأ البناء وتتوسع الدولة بالدعوة والجيش بعد توسعها.

كيف سنقرأ هذه الأحكام إذن؟

إنها ضوابط وتقييدات تحدثنا عن حقيقة لا مفر منها، وهي كالتالي:

الحريات بلا قيود (كما يتوهم البعض، وإلا فانعدام القيود مستحيل) لا تحدث تقدما ولا تستجيب لتحديات الارتقاء وتخطي عقبات التفكك والنكوص والانهزام في التاريخ.

هذا هو المثال الخالد الذي حمله القرآن بين ثناياه، وهذا ما يطلب منا البحث للكشف عنه.

 

هوامش:

(1): علي محمد الصلابي، الحريات من القرآن الكريم: حرية التفكير والتعبير والاعتقاد والحريات الشخصية، دار ابن كثير، الطبعة الأولى، 2013، ص 17.

(2): القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، الجزء 4، ص 66. (عن الكتاب الذي بين ايدينا لمحمد علي الصلابي، ص 17.

(3): عبد السلام الموذن، مقال بعنوان: “النبي محمد والدولة القومية”.

(4): عبد السلام الموذن، نفسه.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *