إشكالية الحرية في مجتمع إسلامي (4) محمد زاوي

مدخل:

ليس نقاش الحرية بالنقاش السهل في مجتمع إسلامي أخذت تخترقه القيم العولمية. إننا أمام موضوع اتخذته بعض التيارات (العلمانية/ الحداثوية) مطية لتفكيك المجتمع، خدمة لأجندات استعمارية أجنبية غربية. لا بد إذن من إثبات حقنا في الحرية، كمسلمين، بالشرع والعقل معا. وهذا ما ستحاوله هذه السلسلة، بعد سلسلة سبقتها في موضوع “النشاط الجنسي للإنسان”.

 

المحور الثاني: الحرية في الغرب: الأشواق وسياقاتها التاريخية (تتمة)

حرية جان جاك روسو في التخلص من “العلاقات الاجتماعية المعقدة” (1712-1778):

لقد كان كل هم جان جاك روسو هو حرية الفرد والاستغناء عن “الإنسان المدني” ب”الإنسان الطبيعي”، وما ذلك ببعيد عن الظروف السياسية والاجتماعية التي فكر روسو في إطارها.

“العلاقات الاجتماعية المعقدة” هي ما يريد جان جاك روسو أن يتخلص منه حتى يتحقق الأفراد بحرياتهم.

فهل ذلك ممكن؟ وما الذي حمل روسو على كل هذا التطرف؟

إن الاستغناء ب”الإنسان الطبيعي” عن “الإنسان المدني” لا يعني شيئا آخر غير العودة إلى الغابة، فهل يصبو روسو إلى “تمدين الغابة” بدون قانون ينظم العلاقات بين الأفراد؟

لقد عرف الإنسان أول ما عُرِف بالقانون (التنظيم)، فليكن ذلك دينا أو عرفا أو غير ذلك… ما يهمنا هو أنه قانون يضبط الناس، ويخرجهم من “الغابوية” شيئا فشيئا.

إلا أن مثالية روسو حالت بينه وبين فهم الواقع كما هو واعتبار التاريخ كما هو أيضا، فتعلق بطوبى: “الإنسان الطبيعي والتخلص من العلاقات الاجتماعية المعقدة”.

إنها مثالية إذن، ولكنها نافعة أيضا.

معيبة نظريا، صائبة إيديولوجيا.

هذا هو الجدل الذي أهمله كل من تعلق بروسو لا تاريخيا، أما من قرأ فكر روسو في سياقه التاريخ فالإنصاف هو ملاذه الوحيد.

ليست هناك حرية خارج الضرورات، هكذا نصوب روسو نظريا.

إلا أن استبداد القرن 18 م لا يواجه إلا بإيديولوجيا متطرفة، ولا ينفع معه إمساك العصا من وسطها.

فقد قال أبو إسحاق الشاطبي: “فإن رأيت ميلا إلى جهة طرف من الأطراف، فذلك في مقابلة واقع أو متوقع في الطرف الآخر… وعلى هذا: إذا رأيت في النقل من المعتبرين في الدين من مال عن التوسط، فاعلم أن ذلك مراعاة منه لطرف واقع أو متوقع في الجهة الأخرى”. (1)

يتكلم أبو إسحاق الشاطبي في الأحكام والفتاوى، ومثله يمكن اعتماده في تفسير تطرف بعض الإيديولوجيات كإيديولوجيا روسو.

لم يعدم علماؤنا حكمة وفطنة وخبرة في سياقاتهم التاريخية، ونحن لم نعتبر إلا قليلا.

يقول فؤاد زكريا: “وتلك في الحق فكرة يكذبها التطور الحديث تكذيبا قاطعا، وهي –كما قلنا في موضع سابق-قد يمكن تصورها في عهد روسو، الذي ثار على ذلك النوع الخاص من القيود السائد في عصره، فتطرف بعد ذلك في الدعوة إلى تحرير الإنسان من الالتزامات، والذي لم يكن قد شهد بعد ما يمكن أن تجلبه الحرية، مفهومة بهذا المعنى الشامل، من ضرر على الجزء الأكبر من الناس. أما في الفترة التالية، بعد أن اتضح ضرورة إيجاد نوع من الإشراف الاجتماعي على القوى الجديدة التي خلقتها الصناعة، فلم يكن هذا الفهم للحرية معقولا على الإطلاق”. (2)

لا تتحقق الحرية في طوبى روسو إلا بتحرير الإنسان من الالتزامات الاجتماعية، وما ذلك في الأصل إلا تطرف إيديولوجي وجهه صاحب “العقد الاجتماعي” صوب استبداد عصره.

لن تتحقق طوبى روسا، ولكنها حتما كانت نافعة في التحريض على الاستبداد في “عصر العقل”.

حرية الجدل الألماني في مواجهة التخلف في واقعه الألماني:

ما التنوير؟ هكذا تساءل إيمانويل كانط.

فأجاب: التنوير هو اتخاذ “الفكر وسيلة لتقويض النظام القائم” في ألمانيا آنذاك. (3)

لقد كان كانط يريد مزاحمة النظام القائم في إيديولوجيته الدينية، فكان ذلك بمثابة تعبير عن حاجة لدى الناس ملحة إلى التغيير والتخلص من الوضع القديم.

إن ألمانيا الإقطاع لم تكن هي فرنسا الإقطاع، وإن ألمانيا البورجوازية لم تكن هي فرنسا البورجوازية.

على أساس هذا الاختلاف الأخير، اختلف التنوير الألماني عن التنوير الفرنسي. فلا العلمية هي الطوباوية، ولا الجدلية هي غياب الوعي بالتناقض. لا ماركس هو أوين، ولا هيجل هو روسو.

يقول عبد السلام الموذن: “إن هذا التخلف المجتمعي الحاد سيفرز لدى النخبة التاريخية الألمانية وعيا حادا أيضا. والفلسفة الألمانية التي صاغت ذلك الوعي في أرقى الأشكال توترا، لم تكن مجرد تعبير عن بورجوازية عاجزة مشلولة، ولا فحسب عن وضع مجتمعي متخلف بئيس، وإنما كانت في نفس الوقت احتجاجا عليه وتجاوزا فكريا له…”. (4)

إن هذا الواقع الألماني هو الذي انعكس في فكر الثلاثة الألمانيين الكبار: إيمانويل كانط، فريدريك هيجل، كارل ماركس.

إن هذا الواقع هو الذي انعكس في “تصور الحرية” عند كل أحد منهم، ولكن حسب السياق التاريخي الخاص الذي فكر في إطاره كذلك.

حرية كارل ماركس في نقد الرأسمالية (1818-1883):

الظاهرة متغيرة وليست ثابتة، وكذلك هي الرأسمالية كنظام اجتماعية.

الرأسمالية متغيرة في التاريخ، وكذلك هي البرجوازية كطبقة اجتماعية وكطرف من طرفي التناقض الرأسمالي.

إن كل هذا يعني تغير التحليل من مرحلة إلى أخرى، وبالتالي تغير المواقف من مرحلة إلى أخرى.

لقد حلل آدم سميث الرأسمالية في بداياتها (رأسمالية القرن 18 م)، فيما حللها كارل ماركس في مراحلها المتقدمة (رأسمالية القرن 19 م).

ولذلك، كان الأول محافظا، فيما كان الثاني ثائرا ناقدا.

فتأسست مع الأول (ومع ريكاردو أيضا) مدرسة “الاقتصاد السياسي”، في حين تأسست مع الثاني مدرسة “نقد الاقتصاد السياسي”.

فإذا كان صاحب “ثروة الأمم” قد قال بخلود النظام الرأسمالي، فإن صاحب “الرأسمال” قد قال بعدم شذوذه عن باقي الأنظمة الاجتماعية.

عن المرحلة التي ظهر فيها الفكر الاقتصادي لآدم سميث، وجدنا فؤاد زكريا يقول: “فدعوة آدم سميث مرتبطة بعصر كان لا يزال للإنتاج الفردي فيه مكانته، وكان العامل لا يزال يستحوذ –في كثير من الأحيان-على وسائل إنتاجه، فلم يكن في فكرة الحرية خطر كبير عليه. ولم تكن فكرة استغلال صاحب العمل لأجيره قد اتضحت معالمها بعد، بدليل أن آدم سميث ينظر إلى صاحب العمل على أنه مرشد للعمال وموجه لهم، يقدم إليهم ما يحتاجون إليه في عملهم من مواد، ويمنحهم أجرا كافيا”. (5)

ربما فكر آدم سميث ببراءة، ولكن الذين جاؤوا بعده استغلوه ليقولوا بخلود الرأسمالية وتبخيس كل نظام اجتماعي يهددها.

إن الحرية التي كانت تعني عند سميث حرية الرأسمالي والعامل معا -إذ يستثمر الأول بحرية دون أن يستغل الثاني (وهذا ما كذبه التاريخ) -هي التي أصبحت تعني عند خلفائه حرية الاستثمار من غير حسيب ولا رقيب.

وعن المرحلة التي ظهر فيها النقد الماركسي، يقول فؤاد زكريا: “… ولم تعد المهارة تنفع العامل، لأن الآلة أصبحت متقنة إلى حد يمكن معه أن تحل في إدارتها امرأة أو طفل محل العامل. وهنا تدهورت أحوال العمال بسرعة، على نحو ما بينا في القسم السابق، واستغل أصحاب العمل الوضع الجديد أقوى استغلال لصالحهم، وضد صالح العمال. عندئذ بدأ الصراع بين الطبقتين، وتبين أن سياسة الحرية المطلقة قد جلبت الانقسام إلى المجتمع، وأدت إلى جلب أشد الأضرار على الجزء الأكبر من المجتمع، أعني على العمال”. (6)

يعتقد فؤاد زكريا أن حرية الرأسمال مطلقة، وما هي كذلك. وذلك لأنها:

– أولا: خاضعة لمصالح الرأسمالي.

– ثانيا: خاضعة للمنافسة بين الرأسماليين.

ملحوظة:

الدعوة إلى الحرية المطلقة نفسها مقيدة مهما ادعت الإطلاق، إذ هي مقيدة بمصالح من تخدم منذ البداية.

(يتبع)

الهوامش:

(1): أبو إسحاق الشاطبي، الموافقات، الجزء 2، ص 167-168.

 

(2): فؤاد زكريا، الإنسان والحضارة، دار مصر للطباعة، 1957، ص 113.

 

(3): مراد وهبة، قصة الفلسفة، دار الثقافة الجديدة، ص 81-82.

 

(4): عبد السلام الموذن، دراسة بعنوان: “الوعي التاريخي القومي”.

 

(5): فؤاد زكريا، مرجع سابق، ص 111.

 

(6): نفسه، ص 112.

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *