إشكالية الحرية في مجتمع إسلامي (3)  محمد زاوي

مدخل:

ليس نقاش الحرية بالنقاش السهل في مجتمع إسلامي أخذت تخترقه القيم العولمية. إننا أمام موضوع اتخذته بعض التيارات (العلمانية/ الحداثوية) مطية لتفكيك المجتمع، خدمة لأجندات استعمارية أجنبية غربية. لا بد إذن من إثبات حقنا في الحرية، كمسلمين، بالشرع والعقل معا. وهذا ما ستحاوله هذه السلسلة، بعد سلسلة سبقتها في موضوع “النشاط الجنسي للإنسان”.

 

المحور الثاني: الحرية في الغرب: الأشواق وسياقاتها التاريخية

1-على سبيل التوطئة

لا يختلف اثنان، من الذين يقرؤون الأفكار والمفاهيم في سياقاتها التاريخية، حول اختلاف معنى الحرية باختلاف الزمن والمكان.

إلا أن “الحداثويين” لا يهتمون بالسياق التاريخي بقدر ما يهتمون بالمثل الخالدة في أذهانهم والمتغيرة في واقع الناس.

إنهم يقرؤون الأفكار الغربية في سياقاتها المختلفة، فلا يميزون بين سياق وسياق. والأكثر فداحة من ذلك، هو نقل كل ذلك الركام من الأفكار المبعثرة إلى السياق العربي على صعيد واحد. ومرة أخرى، يتم هذا النقل دون تمييز بين سياق عربي وآخر.

نفس الخطأ وقع فيه قراء الفكر الليبيرالي الغربي في القرنين: 19 م و20 م (أحمد لطفي السيد، قاسم أمين، سلامة موسى، محمد عبده…)، إذ قرأوا هذا الفكر في مرحلته الأخير (الليبيرالية الفوضوية، الوجه الفوضوي لجون ستيوارت مل)، أو على الأقل قرأوه مبعثرا بين مراحله الأربع. فدعوا إلى الحرية في واقع يقبل الدعوة إليها، وانتقوا من كتب الفكر الليبيرالي الغربي ما ينفعهم ويسد حاجتهم دون تمييز بين السياقات.

إن هذه الدعوات التي بقيت طوباوية ومقطوعة الصلة بواقعها، هي التي حرمت الفكر العربي من إمكانية التأسيس ل”نظرية الحرية” الخاصة به، وبالتالي من تصور الحرية في إطار الدولة. (1)

كيف كان من الممكن قراءة الفكر الغربي دون السقوط في هذا الخطأ إذن؟

الجواب المطلوب على هذا السؤال هو كالتالي:

“كان من الضروري أن يُقرَأ الفكر الغربي في سياقه التاريخي، وفي ضوء أوضاعه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية آنذاك”.

هذا هو ما لم يفعله الليبيراليون العرب، وهذا ما لا نرى “الحداثويين” يفعلونه في زمننا هذا.

فلو فعله الأولون، لما سقطوا في الخلط بين مراحل الليبيرالية الأربع ولما لجأوا إلى الخطاب الفوضوي لجون ستيوارت مل دون غيره من خطاباته.

ولو فعله الذين يلونهم، لما دعوا إلى حرية مطلقة في زمن المطالبة بتحرر الأوطان من الاستعمار في تشكله الجديد. (2)

2-مثالية الليبيرالية العربية التقليدية

لقد مرت الليبيرالية في الغرب بأربع مراحل:

– “مرحلة التكوين”: مفهومها هو مفهوم “الذات” (“الفلسفة الغربية المرتكزة على مفهوم الفرد” / فلسفة عهد النهضة).

– “مرحلة الاكتمال”: مفهومها هو مفهوم “الفرد العاقل المالك لحياته وبدنه وذهنه وعمله” (أساس علمي: الاقتصاد والسياسة / ليبيرالية القرن 18 الموجهة ضد الإقطاع: ديمقراطية روسو ونخبوية فولتير واستبدادية هوبس).

– “مرحلة الاستقلال”: مفهومها هو مفهوم “المبادرة الخلاقة” (الوعي بمشاكل التطبيق، انقلاب المبادئ إلى ما يعاديها عند التطبيق / ليبيرالية بداية القرن 19 الموجهة ضد الدولة العصرية المهيمنة على الأفراد والجماعات: ليبيرالية بيرك وطوكفيل).

– “مرحلة التقوقع”: مفهومها هو مفهوم “المغايرة والاعتراض” (الوعي بما يلي: الأخطار المحيطة بالليبيرالية، وصعوبات التطبيق، وافتقار البشر إلى ما تحتاجه الليبيرالية من مسبقات / ليبيرالية نهاية القرن 19 وبداية القرن 20 الموجهة ضد تنظيم الدولة والملتقية في كثير من مطالبها مع طوبى الفوضوية: جون ستيوارت مل). (3)

لم يتأثر المفكرون العرب بالليبيرالية إلا في مرحلتها الأخيرة. هذا ما يبرر اهتمامهم بجون ستيوارت مل أكثر من غيره، وهذا ما يبرر قراءتهم القاصرة والموجَّهة في فكره.

لقد حدث لهم مع ستيوارت مل ما حدث للفلاسفة المسلمين الأوائل مع أفلاطون. وكما سقط الفلاسفة في فردانية أفلاطون دون التفات منهم إلى حسه الاجتماعي، فقد سقط الليبيراليون العرب في فوضوية ستيوارت مل دون التفات منهم إلى تمييزه بين الناضجين والقاصرين في موضوع الحرية.

لقد كان شعار “الليبيرالية” (العربي) يحمل زيفا نظريا، ولكنه في نهاية المطاف لم يكن يعكس إلا “متطلبات الحياة الاجتماعية في العالم العربي” آنذاك.

لطوبى الحرية (قبل ظهور دولة التنظيمات) واقع هو: الاستبداد، ولدعوتها (الدعوات الليبيرالية) واقع هو: التغيرات الاجتماعية والسياسية التي صاحبت دولة التنظيمات.

ملحوظة:

يقول العروي: “وقد تعرف الليبيرالية في المستقبل تطورات أخرى غير ما ذكرنا”. (4)

الواقع متغير دائما، وكذلك مضمون الليبيرالية. هذه هي ماركسية العروي لا زال يسأل عنها ويبحث.

3-مثالية “الحداثوية” العربية المعاصرة

– وما نيل الحقائق بالتغني

يتغنى رواد “الحداثوية العربية المعاصرة” بكل رأي غربي في الحرية، ولكنهم للأسف لا يرجعون الآراء والأفكار إلا سياقاتها التاريخية.

يتغنون بتحطيم نيكولاس كوبرنيك لمركزية الأرض، ويهملون سياقه التاريخي.

ويتغنون بعقلانية رونيه ديكارت، دون اهتمام بواقع البورجوازية الفرنسية في عصره.

ويتغنون بنقد باروخ سبينوزا للاهوت الكنيسة الإقطاعية، ولا يريدون أن يعرفوا شيئا عن الصراع الذي كان محتدما بين الإقطاع والبورجوازية في هولندا آنذاك.

ويتغنون بإلحاد ديدرو وماديته الميتافيزيقية، ولا يهتمون بمدى اقتراب البورجوازية من تفجير علاقات الإنتاج الإقطاعية في عصره.

ويتغنون بدعوة جان جاك روسو إلى التحرر بالتخلص من العلاقات الاجتماعية، وينسون الواقع السياسي الذي صدرت فيه هذه الدعوة.

ويتغنون بعبقرية الفكر الجدلي الألماني، دون إقامة أية مقارنة بين الواقع المادي الفرنسي ونظيره الألماني.

ويتفاخرون بثورية كارل ماركس وتأسيسه لمدرسة “نقد الاقتصاد السياسي البورجوازي”، وقد نسوا أن “رأسمالية القرن 19 م” هي الأصل الأصيل لكل ذلك.

– حرية كوبرنيك في علميته (1473-1543):

كيف تشكلت حرية كوبرنيك؟

هذا هو السؤال الذي لا يهتم به كثيرون كما هو مطلوب، فيتغنون بعلمية كوبرنيك ناسين شروطه التاريخية.

لم تكن عبقرية كوبرنيك لا تاريخية، ولم تكن متعالية على شروطها التاريخية البتة. ولكنها على العكس من ذلك، جاءت في سياق التناقض الذي كان قائما بين الإقطاع والبورجوازية في مرحلة صعودها. (5)

لقد كانت إيديولوجيا الإقطاع رجعية تحتكر تفسير الطبيعة والمجتمع، وذلك وفق مصالح الإقطاعيين ورغبتهم في عرقلة تطور قوى الإنتاج البورجوازية.

أما إيديولوجيا البورجوازية فقد كانت تقدمية (6) تنزع إلى تفسير الطبيعة والمجتمع بأدوات التفسير الخاصة بهما، وذلك في سبيل تمكين البورجوازية الصاعدة من تطوير قوى إنتاجها.

بتعبير آخر، فقد كان التناقض قائما على المستوى الفوقي بين: منطق جديد (علمي) في تفسير الطبيعة، وفلسفة طبيعية أرسطية تحولت إلى تعاليم كنسية.

في هذا السياق، ظهرت نظرية كوبرنيك القائلة بمركزية الشمس. وفيه أيضا، واجه برونو (1548-1600) تجبّر الكنيسة مؤكدا ذات النظرية.

يقول جورج بوليتزر: “كان المؤلف الذي وضعه أرسطو في الفيزياء هي الذي يدرس في المعاهد، حتى القرن السابع عشر، أثناء دروس الفيزياء. وبموجب التعليمات المطبقة لدى اليسوعيين، ما كان يجوز للأستاذ أن يتصدى من تلقاء نفسه لشرحه. فقد كانت التعليمات تلزمه بشرحه بالرجوع إلى أعظم حجة في هذا الموضوع، نعني القديس توما. لكن القديس توما كان له أيضا شراحه المعتبرون. هكذا كانت دراسة الفيزياء في أساسها سلسلة من الشراح والشروح. وهذا ما يضفي على العلم القروسطي طابعه النصي الرئيس، الذي لم يعرفه قط العلم الأرسطوطاليسي في أصوله. ويقلد الانتهازيون “منهج الأهلية” حين يتشبثون ببعض الأطروحات التي تقادم عليها العهد، لا لشيء إلا لكي يكبحوا تطور العلم والحركة الثورة”. (7)

لقد تحولت “فلسفة الطبيعة” إلى نص ديني، فما كان ليواجهها أحد لو أنها لم تعرقل مصلحة البورجوازية الصاعدة، وهي المتمثلة في حاجتها إلى تطوير العلوم الطبيعية (الانتقال من “فلسفة الطبيعة” إلى “العلم الدقيق” (8))، وبالتالي تطوير قوى الإنتاج البورجوازية.

إن الحرية الكوبرنيكية لا تعني شيئا آخر غير التحرر من “الفلسفة الطبيعية الأرسطية كما أولها توما الأكويني وتلامذته”، وبالتالي من رجعية الإقطاع وتوظيفه التأويل الديني في سبيل بقائه واستمراره.

– حرية رونيه ديكارت في تطوير العلوم الطبيعية (1596-1650):

في نفس السياق الذي ظهر فيه كوبرنيك بنظريته، ظهر ديكارت بفلسفته العقلانية.

لقد عاش ديكارت في عصر بورجوازية فرنسية صاعدة تميزت بالآتي:

– كانت في حاجة إلى تطوير قوى إنتاجها.

– فلم تتصارع مع الكنيسة بشكل محتدم

– ولذلك دعت إلى التمييز بين الغيب والشهادة بشكل صارم غير متردد.

لله خلق الكون، وللإنسان اكتشاف قوانين هذا الكون.

يقول عبد السلام الموذن: “وإذن فإن ما كانت تحتاجه البورجوازية في ذلك الوقت (النصف الأول من القرن السابع عشر، وهي المرحلة التاريخية التي عاش فيها ديكارت)، ليس هو إلغاء علاقات الإنتاج الإقطاعية، بل فقط تطوير قوى الإنتاج. ومن أجل تطوير قوى الإنتاج، كان يتعين تطور العلوم الطبيعية. ومن أجل تطور العلوم الطبيعية، كان لا بد من سيادة الفكر الحر. والفكر الحر يعني التحرر من كل سلطة معرفية غير سلطة العقل، أي أن الباحث في شؤون الطبيعة، يجب أن يكون متحررا من كل أنواع الأفكار المسبقة، كما يجب عليه ألا يتقيد إلا بالاستجابات المنطقية والتجريبية، التي يتوصل إليها عن طريق العقل، والعقل وحده”. (9)

“الفكر الحر” الديكارتي إذن، هو في جوهره الواقي يعني التمرد على سلطة الكنيسة في مجال “تفسير الطبيعة والبحث عن قوانينها”، وليس ذلك إلا تمردا على الإقطاع في نهاية المطاف. (10)

(يتبع)

ـــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

(1): راجع: “مفهوم الدولة”، لعبد الله العروي.

(2): محمد عزيز الحبابي وعبد الصمد بلكبير.

 

(3): عبد الله العروي، مفهوم الحرية، ص 49-52.

(4): نفسه، ص 50.

(5): سنرى نفس الشيء مع ديكارت، وذلك حسب تفسير عبد السلام الموذن في “الطبقة العاملة الحديثة والنظرية الماركسية”.

 

(6): التقدمية تحدد عندنا بالشروط التالية: “العقل في التاريخ” (هيجل)، “العقل في مواجهة الطبيعة” (ماركس)، “التحليل الملموس للواقع الملموس” (لينين)، “التقدمية بنت التاريخ” (إسماعيل المهدوي)، “الممارسة العملية معيار النظرية ومادتها الأولى” (إلياس مرقص).

(7): جورج بوليتزر، فلسفة الأنوار، اتصالات سبو، الطبعة الأولى، 2006، ص 15-16.

 

(8): يعرف هشام غصيب “العلم الدقيق” بقوله: “العلم الدقيق هو: العلاقة الجدلية الضرورية بين التنظير المريض والتجربة والقياس الدقيقين”. (سلسلة محاضرات ألقاها هشام غصيب، بعنوان: “تاريخ العلم”)

(9): عبد السلام الموذن، الطبقة العاملة الحديثة والنظرية الماركسية، عيون المقالات، الطبعة الأولى، 1990، ص 105.

(10): ولكنه ليس تمردا كتمرد سبينوزا أو ديدرو، لأن سبينوزا لم يواجه الغيب الكنسي، بل ميز بينه وبين الشهادة (الطبيعة خاصة).

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *