مدخل:
ليس نقاش الحرية بالنقاش السهل في مجتمع إسلامي أخذت تخترقه القيم العولمية. إننا أمام موضوع اتخذته بعض التيارات (العلمانية/ الحداثوية) مطية لتفكيك المجتمع، خدمة لأجندات استعمارية أجنبية غربية. لا بد إذن من إثبات حقنا في الحرية، كمسلمين، بالشرع والعقل معا. وهذا ما ستحاوله هذه السلسلة، بعد سلسلة سبقتها في موضوع “النشاط الجنسي للإنسان”.
المحور الأول: مدخل الحرية أو الوعي بالضرورات (الطبيعة / الوجود الاجتماعي / اللاوعي)
(…)
3-الوعي باللاوعي
تتميز النفس في التحليل النفسي المعاصر بكونها نفسا واحدة، تتأثر بنفس الطريقة، وتقاوم بنفس الطريقة، وتتأقلم بكيفية واحدة (1)… ولكنها رغم ذلك بنت ظروفها وبيئتها، وإن كانت تشتغل بنفس الميكانيزمات.
تميل النفس وتمتعض، وذلك هو سلوكها الظاهر الذي يتحدد بالوعي والشعور.
فهل هذا هو كل ما في الأمر؟
لا ثم لا، فتحت جبل الجليد (الوعي) جذر ضخم (اللاوعي).
هذا هو الانقلاب الذي أحدثه فرويد في علم النفس، وهذا ما منحه جدارة تأسيس “مدرسة التحليل النفسي”.
قد تكلم كثيرون قبل فرويد عما وراء الوعي والشعور والعقل الظاهر، ولكن فرويد هو من درس العلاقة القائمة بين الشعور واللاشعور بدقة وتكلم في تجلياتها وتوصل إلى تخليص مرضاه من أزماتهم النفسية انطلاقا من تحليلات تعتمد عليها.
قد يؤاخَذ فرويد على تضخيمه للدافع الجنسي (الليبيدو) وأثره في لا شعور الإنسان (وهذا ما أثبتته الفرويدية الحديثة)، إلا أن اجتهاداته المتعلقة بثنائية اللاشعور/الشعور لا يمكن تجاوزها.
يسيء بعض الباحثين فهم فرويد، فيظنون أن اهتمامه بسلطة اللاوعي يقتضي الانصياع لها والاستسلام أمامها. وهذا ظن خاطئ، لأن فرويد يقول بتأثير اللاوعي كما يقول بإمكانية التحكم فيه.
فكيف يحصل ذلك؟
لقد ظل فرويد يدعو طيلة مساره إلى معرفة الدوافع اللاواعية، ومن ثم تطوير مناهج وآليات البحث عنها. فذلك هو السبيل للتخلص منها، أو على الأقل التخفيف من حدتها وتأثيرها.
وبهذا، يتميز فرويد عن كل من ألفريد آدلر وغوستاف يونغ.
– فإذا كان الأول متفائلا أكثر من اللازم، ما جعله يعلي من سلطة الوعي فوق كل اعتبار، حيث إمكانية التخلص من عقدة النقص بتحويلها إلى عامل تفوق…
– وإذا كان غوستاف يونغ متشائما أكثر من اللازم، ما جعله يعلي من سلطة اللاوعي فوق كل اعتبار، حيث تحكم الأساطير والخرافات والرموز قبضتها على لا وعي الإنسان ليصبح حيويا لا يردعه رادع…
– فإن نظرية فرويد ليست “بالعقلانية” المتفائلة (آدلر)، ولا “بالرومانسية” المتشائمة (يونغ)، وإنما هي توليف بين هذين الاتجاهين… (2)
لقد كان طموح فرويد من اكتشاف ثنائية اللاوعي/الوعي متمثلا في: البحث عن إمكانات الوعي باللاوعي. وذلك للتمرن على التحكم في اللاوعي، وليس للإقرار بسلطته المطلقة على الوعي كما فهم البعض.
ملحوظة:
انطلاقا من هذا التحليل، نستنتج أن التحديث على المستوى النظري (في “التحليل النفسي” على الأقل) لم يتوقف عند تفكيك الإنسان فحسب، وإنما تعداه ليمكن كل ذي مرض أو رهق نفسي من تجاوز أزماته التي بقيت مدة طويلة غير خاضعة للفهم.
المحور الثاني: الحرية في الغرب: الأشواق وسياقاتها التاريخية
1-على سبيل التوطئة
لا يختلف اثنان، من الذين يقرؤون الأفكار والمفاهيم في سياقاتها التاريخية، حول اختلاف معنى الحرية باختلاف الزمن والمكان.
إلا أن “الحداثويين” لا يهتمون بالسياق التاريخي بقدر ما يهتمون بالمثل الخالدة في أذهانهم والمتغيرة في واقع الناس.
إنهم يقرؤون الأفكار الغربية في سياقاتها المختلفة، فلا يميزون بين سياق وسياق. والأكثر فداحة من ذلك، هو نقل كل ذلك الركام من الأفكار المبعثرة إلى السياق العربي على صعيد واحد. ومرة أخرى، يتم هذا النقل دون تمييز بين سياق عربي وآخر.
نفس الخطأ وقع فيه قراء الفكر الليبيرالي الغربي في القرنين: 19 م و20 م (أحمد لطفي السيد، قاسم أمين، سلامة موسى، محمد عبده…)، إذ قرأوا هذا الفكر في مرحلته الأخير (الليبيرالية الفوضوية، الوجه الفوضوي لجون ستيوارت مل)، أو على الأقل قرأوه مبعثرا بين مراحله الأربع. فدعوا إلى الحرية في واقع يقبل الدعوة إليها، وانتقوا من كتب الفكر الليبيرالي الغربي ما ينفعهم ويسد حاجتهم دون تمييز بين السياقات.
إن هذه الدعوات التي بقيت طوباوية ومقطوعة الصلة بواقعها، هي التي حرمت الفكر العربي من إمكانية التأسيس ل”نظرية الحرية” الخاصة به، وبالتالي من تصور الحرية في إطار الدولة. (3)
كيف كان من الممكن قراءة الفكر الغربي دون السقوط في هذا الخطأ إذن؟
الجواب المطلوب على هذا السؤال هو كالتالي:
“كان من الضروري أن يُقرَأ الفكر الغربي في سياقه التاريخي، وفي ضوء أوضاعه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية آنذاك”.
هذا هو ما لم يفعله الليبيراليون العرب، وهذا ما لا نرى “الحداثويين” يفعلونه في زمننا هذا.
فلو فعله الأولون، لما سقطوا في الخلط بين مراحل الليبيرالية الأربع ولما لجأوا إلى الخطاب الفوضوي لجون ستيوارت مل دون غيره من خطاباته.
ولو فعله الذين يلونهم، لما دعوا إلى حرية مطلقة في زمن المطالبة بتحرر الأوطان من الاستعمار في تشكله الجديد. (4)
2-مثالية الليبيرالية العربية التقليدية
لقد مرت الليبيرالية في الغرب بأربع مراحل:
– “مرحلة التكوين”: مفهومها هو مفهوم “الذات” (“الفلسفة الغربية المرتكزة على مفهوم الفرد” / فلسفة عهد النهضة).
– “مرحلة الاكتمال”: مفهومها هو مفهوم “الفرد العاقل المالك لحياته وبدنه وذهنه وعمله” (أساس علمي: الاقتصاد والسياسة / ليبيرالية القرن 18 الموجهة ضد الإقطاع: ديمقراطية روسو ونخبوية فولتير واستبدادية هوبس).
– “مرحلة الاستقلال”: مفهومها هو مفهوم “المبادرة الخلاقة” (الوعي بمشاكل التطبيق، انقلاب المبادئ إلى ما يعاديها عند التطبيق / ليبيرالية بداية القرن 19 الموجهة ضد الدولة العصرية المهيمنة على الأفراد والجماعات: ليبيرالية بيرك وطوكفيل).
– “مرحلة التقوقع”: مفهومها هو مفهوم “المغايرة والاعتراض” (الوعي بما يلي: الأخطار المحيطة بالليبيرالية، وصعوبات التطبيق، وافتقار البشر إلى ما تحتاجه الليبيرالية من مسبقات / ليبيرالية نهاية القرن 19 وبداية القرن 20 الموجهة ضد تنظيم الدولة والملتقية في كثير من مطالبها مع طوبى الفوضوية: جون ستيوارت مل). (5)
لم يتأثر المفكرون العرب بالليبيرالية إلا في مرحلتها الأخيرة. هذا ما يبرر اهتمامهم بجون ستيوارت مل أكثر من غيره، وهذا ما يبرر قراءتهم القاصرة والموجَّهة في فكره.
لقد حدث لهم مع ستيوارت مل ما حدث للفلاسفة المسلمين الأوائل مع أفلاطون. وكما سقط الفلاسفة في فردانية أفلاطون دون التفات منهم إلى حسه الاجتماعي، فقد سقط الليبيراليون العرب في فوضوية ستيوارت مل دون التفات منهم إلى تمييزه بين الناضجين والقاصرين في موضوع الحرية.
لقد كان شعار “الليبيرالية” (العربي) يحمل زيفا نظريا، ولكنه في نهاية المطاف لم يكن يعكس إلا “متطلبات الحياة الاجتماعية في العالم العربي” آنذاك.
لطوبى الحرية (قبل ظهور دولة التنظيمات) واقع هو: الاستبداد، ولدعوتها (الدعوات الليبيرالية) واقع هو: التغيرات الاجتماعية والسياسية التي صاحبت دولة التنظيمات.
ملحوظة:
يقول العروي: “وقد تعرف الليبيرالية في المستقبل تطورات أخرى غير ما ذكرنا”. (6)
الواقع متغير دائما، وكذلك مضمون الليبيرالية. هذه هي ماركسية العروي لم لا زال يسأل عنها ويبحث.
3-مثالية “الحداثوية” العربية المعاصرة
وما نيل الحقائق بالتغني
يتغنى رواد “الحداثوية العربية المعاصرة” بكل رأي غربي في الحرية، ولكنهم للأسف لا يرجعون الآراء والأفكار إلا سياقاتها التاريخية.
يتغنون بتحطيم نيكولاس كوبرنيك لمركزية الأرض، ويهملون سياقه التاريخي.
ويتغنون بعقلانية رونيه ديكارت، دون اهتمام بواقع البورجوازية الفرنسية في عصره.
ويتغنون بنقد باروخ سبينوزا للاهوت الكنيسة الإقطاعية، ولا يريدون أن يعرفوا شيئا عن الصراع الذي كان محتدما بين الإقطاع والبورجوازية في هولندا آنذاك.
ويتغنون بإلحاد ديدرو وماديته الميتافيزيقية، ولا يهتمون بمدى اقتراب البورجوازية من تفجير علاقات الإنتاج الإقطاعية في عصره.
ويتغنون بدعوة جان جاك روسو إلى التحرر بالتخلص من العلاقات الاجتماعية، وينسون الواقع السياسي الذي صدرت فيه هذه الدعوة.
ويتغنون بعبقرية الفكر الجدلي الألماني، دون إقامة أية مقارنة بين الواقع المادي الفرنسي ونظيره الألماني.
ويتفاخرون بثورية كارل ماركس وتأسيسه لمدرسة “نقد الاقتصاد السياسي البورجوازي”، وقد نسوا أن “رأسمالية القرن 19 م” هي الأصل الأصيل لكل ذلك.
(…)
الهوامش:
(1): ترجمة لمبدأ “الإنسان العالمي” كما ورد عند فرويد.
(2): راجع: “أزمة التحليل النفسي”، لإريك فروم.
(3): راجع: “مفهوم الدولة”، لعبد الله العروي.
(4): محمد عزيز الحبابي وعبد الصمد بلكبير.
(5): عبد الله العروي، مفهوم الحرية، ص 49-52.
(6): نفسه، ص 50.