عرفت ظاهرة التسول، منذ سنوات، انتشار واسعا في المجتمع المغرب؛ إلا أنها تفاقمت بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة، الأمر الذي يفرض علينا إخضاع هذه الظاهرة للدراسة في مختلف أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وكذا إبداء حكم الشريعة الإسلامية في ممارستها.
في هذا العدد، تسلط جريدة “السبيل” الضوء على هذه الظاهرة، لعل القارئ يلمس بعد خيوطها في تركيبة الظواهر المنتشرة في المجتمع المغربي.
1-عقوبة التسول في القانون الجنائي المغربي
ينص القانون الجنائي المغربي، في الفصول من 326 إلى 333، على عقوبتي التسول والتشرد.
وبهذا، ينص ذات القانون على تجريم التسول ويعاقب بالسجن من شهر واحد إلى ستة أشهر “من كانت لديه وسائل التعيش أو كان بوسعه الحصول على عمل بأية وسيلة مشروعة لكنه تعود ممارسة التسول في أي مكان كان”.
وبالسجن من ثلاثة أشهر إلى سنة “كل متسول، حتى لو كان ذا عاهة أو معدما، استجدى باستعمال التهديد أو التظاهر بالمرض، أو تعود استصحاب طفل صغير أو أكثر من غير فروعه، أو الدخول إلى مسكن أو أحد ملحقاته دون إذن من مالكه”.
ويعاقب بنفس هذه العقوبة “من يستخدم في التسول صراحة أو تحت ستار مهنة أو حرفة ما أطفالا يقل سنهم عن 13 سنة”.
2-تفاقم ظاهرة التسول وتدخل وزارة الداخلية
مع تفاقم ظاهرة التسول وكثرة المقبلين عليها، أكدت وزارة الداخلية، في جواب على سؤال برلماني حول “تفاقم ظاهرة التسول وتهديدها للأمن العام” (فبراير 2023)، أن “التدخلات الميدانية لمكافحة ظاهرة التسول خلال 2021، أسفرت عن تسجيل ما مجموعه 28597 قضية، تم على إثرها توقيف 32669 شخصا، من بينهم 2975 أجنبيا، بالإضافة إلى تسجيل في الفترة ما بين فاتح يناير و15 غشت 2022 ما مجموعه 2425 قضية، وتوقيف 28769 شخصا، من بينهم 2408 أجانب”.
وقالت ذات الوزارة إن “مصالحها تولي أهمية قصوى لمحاربة ظاهرة التسول، نظرا لانعكاساتها السلبية على الإحساس بالأمن لدى المواطنين الذين يتأذون من أنشطة التسول ومن السلوكيات العدوانية لبعض المتسولين، فضلا عن استغلال الأطفال والأشخاص في وضعية إعاقة في هذا النشاط، وتشويه المنظر الجمالي بالشارع العام بمختلف مدن المملكة”.
وزاد ذات المصدر أنه “لمحاربة هذه الظاهرة، تقوم المصالح الأمنية بتنسيق مع السلطات المحلية، بتسخير كل الوسائل المادية والبشرية من أجل الرصد المباشر والتدخل الفوري لإيقاف الأشخاص المتورطين أو منعهم من الاستمرار في هذا النشاط أو التواجد ببعض الأماكن المعروفة بانتشار هذه الظاهرة، مستعينين في ذلك بأنظمة المراقبة بالكاميرات المثبتة بالشارع العام”.
وأضافت وزارة الداخلية أن “محاربة هذه الظاهرة تستلزم تضافر جهود مختلف القطاعات المعنية، وكذا فعاليات المجتمع المدني، من أجل تبني مقاربة اجتماعية كفيلة بإعادة تأهيل هذه الفئة وإدماجها وسط النسيج الاجتماعي”.
3-التسول.. تفسير سوسيولوجي
لم يعد التسول مجرد حالات معزولة، بل أصبح ظاهرة تفرض إخضاعها للبحث والدراسة، خاصة الدراسة السوسيولوجية، لمعرفة الأسباب الاجتماعية لهذه الظاهرة.
وفي سياق متصل، قال الأستاذ الباحث في علم الاجتماع، علي شعباني، في تصريح ل”و م ع” (أكتوبر 2020)، إن “هذه الظاهرة الاجتماعية أصبحت ممارسة خطيرة وفي تطور مستمر في المغرب، فكل فئات المجتمع، من جميع الأعمار ومن الجنسين، فتيات ونساء ورجال وكبار السن يمتهنون على حد سواء مهنة التسول”.
وتابع شعباني أن “التسول يعرف تزايدا لأسباب وعوامل مختلفة ومتعددة”، مضيفا أن “ظاهرة التسول أثبتت، من وجهة نظر اجتماعية، ومنذ فترة طويلة، أنها حرفة تدر دخلا هاما لا يتطلب شهادات أو جهدا”.
وزاد أن “بعض المتسولين يرفضون عروض عمل يتلقونها من المصانع أو المطاعم أو غيرها، معتبرين أن مد اليد يتيح لهم كسب دخل يومي مهم يتراوح بين 250 و300 درهم كحد أدنى”.
وقال في ذات التصيرح: “ليس كل الفقراء متسولون، وإن بعض المتسولين يعانون من جشع وعقد وأمراض نفسية تدفعهم إلى ممارسة هذه الحرفة المستقرة لكسب المزيد من المال وأحيانا لجمع ثروات”.
وكشف شعباني أنه “بمرور الوقت، يكتسب المتسولون الخبرة في هذا المجال ويشرعون في استهداف المناطق والجهات والأحياء حيث يدرون أكبر قدر من المال باحترافية، وبالتالي يصبحون أكثر جشعا للمال”.
4-التسول اقتصاديا.. انكماش الطبقة الوسطى وتبعاتها
للتسول أسباب اقتصادية، منها ما يتعلق بمشاكل التشغيل، ومنها ما يتعلق بطبيعة الاقتصاد الداخلي، وهناك من ربطها بواقع الطبقة الوسطى.
فقد أكد خبراء اقتصاديون أن “الطبقة الوسطى لأي مجتمعٍ هي صمام أمان وتدل على تعافيه الاقتصادي والاجتماعي، فكلما زادت، كبُرَ حجم الاقتصاد ونما، وضُبط إيقاعه بمختلف المجالات”.
وقال ذات الخبراء، وفق ما ذكره موقع “العرب” (موقع أردني، 2023)، أن “جائحة فايروس كورونا أثرت سلبا على فئات هذه الطبقة من المجتمع التي تضم المهنيين والحرفيين وموظفي القطاع الخاص ممن هم في الإدارات المتوسطة والفنية، والقيادات الوسطى في القطاع العام، ومالكي العمل ووسائل الإنتاج الصغيرة”.
وتابعوا: “يعني اندثار تلك الطبقة أو اضمحلالها، تراجع الإنفاق والاستهلاك، وركود الأسواق، وانخفاض الحراك الاجتماعي والتجاري، وزيادة معدلات البطالة، وقلة المساواة، وتراجع المشاريع”.
ونتيجة لهذه الظروف الاقتصادية الصعبة، تتفاقم ظاهرة التسول أكثر من السابق، ويزداد عدد المقبلين عليه، إن كحرفة وإن كمصدر رزق أدت إليه الفاقة.
5-استخدام الأطفال في التسول.. ظاهرة خطيرة تطلب تظافر الجهود
انتشرت ظاهرة استخدام الأطفال في التسول بشكل خطير، زاد هذه الظاهرة خطورة وانحرافا عمّا يمكن أن يكون لها من أسباب موضوعية.
ورغم تجريم القانون الجنائي المغربي لهذه الظاهرة، إلا أنها تطلب تظافر جهود مختلف القطاعات، والتعامل معها بمقاربة تركيبية بين الثقافي والاقتصادي والسياسي والأسري والقانوني، إلخ.
وفي هذا الصدد، أطلقت وزارة التضامن والتنمية الاجتماعية والمساواة والأسرة، بتعاون مع رئاسة النيابة العامة والقطاعات الحكومية والمؤسسات الوطنية المعنية والجمعيات، في نهاية سنة 2019 وبداية 2020، خطة عمل حماية الأطفال من الاستغلال في التسول.
وتهدف هذه المبادرة الوزارية إلى “وضع منظومة متكاملة لحماية الأطفال من الاستغلال في التسول، تشمل الحماية القضائية والتكفل الطبي والنفسي والرعاية الاجتماعية وإعادة الإدماج في مؤسسات التربية والتكوين”.
ومن نتائج ذات المبادرة أنها “مكنت في تجربة نموذجية شملت مدن الرباط وسلا وتمارة، من سحب حوالي 100 طفل من الاستغلال في التسول، وذلك إلى غاية بداية الحجر الصحي (كورونا)”.
ومن شأن الإحصائيات الحالية، بعد مرور حوالي أربع سنوات من إطلاق المبادرة، أن تجيب على سؤال: “إلى أي مدى يمكن القول بنجاحها؟”؛ إلا أن استمرار ظاهرة التسول باستخدام الأطفال في الشوارع والأسواق المغربية، ربما يفرض جهودا أكبر وأكثر نجاعة لا تستطيع المبادرة تلبيتها.
6-تسول المهاجرين الأفارقة.. ظاهرة مركبة في سياق جد حساس
انتشرت في السنوات الأخيرة ظاهرة لها علاقة بالتسول، هي ظاهرة تسول المهاجرين الأفارقة السريين إلى المغرب، الأمر الذي يتطلب تسليط الضوء على هذه الفئة والمعطيات الخاصة بتواجدها وعيشها بالمغرب.
وبهذا الخصوص، أفادت دراسة أنجزتها الجمعية المغربية للدراسات والبحوث حول الهجرة، واللجنة الدولية من أجل تنمية الشعوب الموجودة في إيطاليا، عام 2008، أن “معدل بقاء المهاجرين الأفارقة بالمغرب هو سنتان ونصف، ثلاثة أرباعهم أفصحوا عن رغبتهم في السفر نحو أوروبا، وينوي 72.6% تحقيق مشاريعهم، بينما لا يريد العودة إلى بلادهم سوى 10.6% و2.3% يرغبون في البقاء بالمغرب”.
وأضاف ذات المصدر أن “عدد المهاجرين السريين الأفارقة بالمغرب يتراوح بين 10 و15 ألفا، يتقدمهم النيجيريون بـ15.7% يتلوهم الماليون بـ13.1% ثم السنغاليون بـ12.8% وأخيرا مهاجرو الكونغو الديمقراطية بـ10.4%”.
وأوضحت الدراسة أن “مداخيل المهاجرين الأفارقة بعد الهجرة، فصرح 59.4% بأنهم لا دخل لهم، في حين اعترف 18.8% بالتسول مصدرا لمداخيلهم، و11.5% من المهن الصغيرة، و7.9% يتلقون مساعدات من جمعيات خيرية، و2.3% لهم عمل خاص في أشغال البناء والتجارة الصغيرة والأعمال المنزلية”.
وأبرزت ذات الدراسة أن “أغلب المهاجرين (41.9%) لهم دخل شهري يتراوح بين 44 و88 يورو، في حين يقل دخل 23.3% عن 44 يورو. كما يعيش ثلثاهم في غرف جماعية بينما 10.4% ليس لهم مسكن”.
7-تسول السوريين.. ملف عالق وممارسة محفوفة بالمخاطر
ظاهرة أخرى لها علاقة بموضوع التسول، هم سوريون يمدون أيديهم متسولين بالشوارع وأمام المساجد وعند إشارات مرور السيارات، بعدموا تركوا بلدهم سوريا خوفا من الموت.
وهو ما نعكس على المجتمع المغربي، في ظل غياب استراتيجية للتعامل مع هذا الملف، إذ يعاني أغلب المعاجرين السوريين من “عدم وجود فرص للعمل مما دفع العديد من السوريين إلى التسول في المساجد والشوارع أمام الفنادق والمطاعم والأسواق الكبرى ومحطات القطارات… طمعاً في عطف المغاربة في مساعدتهم، وأصبح من الظواهر المألوفة أن تجد عائلات سورية تحمل جواز السفر تبرز جنسيتها يطلبون المساعدة”، وفق ما ذكره موقع “بوابة إفريقيا”.
وأوضح ذات المصدر أن “لتسول السوريين أشكالا مختلفة، فنجد نساء وأطفالاً وكهولا بأعداد هائلة في الشوارع يتسولون كل منهم على طريقته، منهم من يتقدم للمارة طالباً المال من أجل شراء الدواء، ومنهم من يطلبه لشراء طعام لأولاده، ومنهم من يطلبه بحجة المرض..”.
كما أن هذا النوع من التسول يعرض عددا من السوريين لعدد من المخاطر، ذكرها ذات الموقع، لعل أشدها خطورة التحرش بالفتيات السوريات، والأطفال من قبل مرضى “البيدوفيليا”.. حسب ما ذكرته “بوابة إفريقيا”.
8-قول الفقيه.. حكم “التسول” وواقعه
وردت أدلة كثيرة تنهى عن التسول، وسؤال الناس من غير ضرورة أو حاجة ملحة منها: حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم) رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سأل الناس أموالهم تكثراً فإنما يسأل جمراً فليستقل أو ليستكثر). رواه مسلم.
وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن المسألة كدٌ يكد بها الرجل وجهه إلا أن يسأل الرجل سلطاناً أو في أمر لا بد منه) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته ومن أنزلها بالله أوشك الله له بالغنى إما بموت عاجل، أو غنى عاجل) رواه أبو داود والترمذي وقال:حسن صحيح.
وعن قبيصة بن مخارق الهلالي رضي الله عنه قال: تحملت حمالةً فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها، قال: ثم قال: (يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة، رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلَّت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش أو قال سداداً من عيش، ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه لقد أصابت فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً مـن عيش أو قال سداداً من عيش فما سواهن في المسألة، يا قبيصة سحتاً يأكلها صاحبها سحتاً) رواه مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره فيتصدق به على الناس: خيرٌ له من أن يأتي رجلاً فيسأله أعطاه أو منعه) رواه البخاري ومسلم.
وخلاصة الأمر أن الأصل في التسول التحريم إلا لضرورة أو حاجة ملحة وينبغي للمسؤلين عن المساجد منع المتسولين داخل المساجد، ويجوز إعطاء المتسولين خارج المساجد إن كانوا صادقين، ومشكلة التسول تحتاج إلى حل تسهم فيه الجهات الرسمية والخيرية.