مدخل:
يعتبر موضوع “النشاط الجنسي” من أهم المواضيع التي تثير الكثير من المواقف المتناقضة، والكثير من الاضطرابات لدى ناشئتنا وشبابنا، وخصوصا في زمننا هذا، حيث اخترقتنا الإشكاليات الزائفة، والتي ليست هي إشكالياتنا حتما، فيما يخص مواضيع الحرية، والحريات الجنسية منها خاصة. لا بد، إذن، من تصور النشاط الجنسي تصورا سليما، حتى تعيه كافة فئات المجتمع كما هو، ومن ثم تتعامل معه كما هو مطلوب تاريخيا، وكما هو مطلوب في مجتمعات إسلامية يعتبر الدين عنصرا بارزا من عناصر “ثقافتها الوطنية”. ومن مسؤوليتها التوعوية والتعليمية، ارتأت جريدة “السبيل” أن تتناول موضوع “النشاط الجنسي للإنسان” بشكل مفصل”، فيزيولوجيا واجتماعيا وسيكولوجيا. وذلك، قبل أن تبين لقرائها الكرام تهافت آراء ومواقف “الحداثويين” الذين يستغلون “العلوم” إياها، استغلالا إيديولوجيا، بهدف تفكيك الأسرة وقيمها.
رابعا: في نقد “الجنس الغابوي” في مشروع عبد الصمد الديالمي
1-فيلهلم رايش (تم في الحلقة السابقة)
2-عبد الصمد الديالمي (تم جزء منه في الحلقة السابقة)
أ-المعرفة والجنس: من الحداثة إلى التراث
(…) إن الاضطرابات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية دائما ما تحمل معها اضطرابات ثقافية وقيمية، ولكنها ليست في مغرب اليوم كما كانت في مغرب “الصراع بين الوطاسيين والسعديين”. إن “أنماط الإنتاج” التي يرفضها الديالمي هي التي تكشف عن هذا الاختلاف، وذلك لأن نمط الإنتاج الرأسمالي ليس هو النمط الإقطاعي (لم يكن مكتملا، بحسب دراسات أخرى أكثر دقة). وبالتالي، فليس مصطفى بن حمزة هو أحمد بن عرضون، ولا متصوفة هذا العصر هم مجاذيب ذلك الزمن، ولا “خلعاء” (بتعبير عبد الصمد بلكبير) هذا العصر هم “منحلو” ذلك الزمن… إلخ.
فمصطفى بن حمزة يواجه الاستعمار الثقافي في زمن الاستعمار الجديد، أما أحمد بن عرضون فقد كان كل همه هو مواجهة الانحلال الجنسي الداخلي في مجتمع لم يكن مهددا بثقافة الغازي، وإنما بعسكره فحسب. وهذا ما يستحضره الديالمي بنفسه عند قوله: “ابن عرضون اهتم بتنظيم العلاقات بين الأزواج في فترة انحطاط وانحلال. ذلك أن ضعف وتمزق السلطة المركزية بين الوطاسيين والسعديين إلى حدود 1554 م، علاوة على احتلال المدن الشاطئية من طرف البرتغال وعلى الحروب القبلية، وهي ظواهر متشابهة ومتداخلة، كل ذلك أدى إلى تقلص نفوذ المخزن والشرع، وإلى الشعور بقرب الساعة (السنة 1000 هجرية عند آخر الزمان)، وبالتالي إلى اندثار كل الضوابط الأخلاقية والدينية” (1). يعيش ابن حمزة اليوم في زمن تفكيك “الاستشراق الجديد” لعرى مجتمعات الجنوب، وفي زمن الرأسمالية بعدما توحّشت وتعفّنت وأخذت تُحتَضر وتصدر أزماتها إلى دول الجنوب. أما ابن عرضون، فقد عاش في زمن: الانحلال الناتج عن ضعف السلطة وانحسار يد الدولة، الصراع بين إقطاع وطاسي وآخر سعدي، مواجهة الغزو البرتغالي على الحدود الشاطئية المغربية. لابن عرضون سياق، ولابن حمزة سياق آخر. فما بال الديالمي يصف متن الأول كوثيقة سوسيولوجية يكتشف من خلالها الواقع الذي وردت فيه، فيما يصف قول الثاني بأنه قول “فقيه متمذهب” ضاربا عرض الحائط سياق كلامه والشرط التاريخي لموقفه؟!
أما متصوفة هذا العصر، فهم يلعبون أدوارا أخرى وتصدرون عنهم مواقف مغايرة تلك المواقف كانت تصدر عن عبد الرحمان المجذوب تجاه مشاكل عصره. فإذا كان المجذوب يحمّل مسؤولية انحلال المجتمع للمرأة وإغوائها، فإن متصوفة اليوم ينظرون إلى المرأة نظرة أخرى، تتسم في غالبها بالإيجابية. وإذا كان هو ناقما على مجتمع منحل، فإن متصوفة اليوم فِرق وشيع: منها التي تنزع إلى إصلاح ما فسد في العالم بالزهد والتعلق بالآخرة وبذل الحب للعالمين أجمعين، ومنها التي تعمل جنبا إلى جنب مع الرأسمالية المتوحشة على نشر السيولة وتأصيلها بالتماس الأعذار ودخول العالمين جميعا تحت رحمة الله، ومنها –على قلتها-التي استوعبت شرطها التاريخي بالنظر واستدعت الصوفية (خطابا وتجربة) كشكل من أشكال المقاومة في زمن الاستعمار الجديد. يقول الديالمي: “وقد اشتهر منهم (من المجاذيب، كرد فعل على انحلال المجتمع الوطاسي) في هذا السياق عبد الرحمان المجذوب بفضل رباعيته التي تعبر عن سخطه على المجتمع المغربي في القرن العاشر الهجري، والتي تميزت بكراهية شديدة تجاه المرأة باعتبارها مسؤولة عن تردي الأخلاق والدين في اعتقاد المجذوب” (2). لم يكن خطاب مجذوب الأمس يعكس إلا واقعا من الانحلال تسبب فيه الغزو والصراع الداخلي بين الإقطاعات، وما متصوفة اليوم إلا “إسلامويون” أصوليون يدعون إلى الحرمان الجنسي ويشجعونه. وهكذا، يتأكد كيل الديالمي بمكيالين: مجذوب نعتبر السياق التاريخي الذي ظهر فيه، ومتصوف نصدر في حقه حكم قيمة دون اعتبار لسياقه.
هذا، وينضوي “خلعاء” اليوم تحت لواء عدة مراكز وجمعيات ومؤسسات هدفها إتلاف الذاكرة والثقافة الوطنيتين، فيما كان “منحلو” ذلك الزمن يتصرفون من غير أن يملي عليهم أي غازٍ تصرفاتهم. “خلعاء” هذا العصر، و”عكاكزة” ذلك الزمن، كلاهما يسقطان في حبال الأجنبي ويخدمان استراتيجيته، بقصد أو بغيره. لقد كانت حركة “العكاكزة” (3) في عهد الوطاسيين تمثل ردة فعل على الانحلال والتفسخ الأخلاقي الذي فرضه انحسار الدولة وضعف السلطة المركزية، أما “خلعاء” اليوم فهم أنفسهم صانعو السيولة والانحلال، ومبرروه بالنقل والعقل معًا. وإذا كان “العكاكزة” ينتجون خطابهم ويبررون نشاطهم بأنفسهم ووفق ما تمليه عليهم أهواؤهم، فإن “الخلعاء” يستوردون إشكالياتهم وخطاباتهم من مهندسي “الاستشراق الجديد” في الغرب الرأسمالي.
ب-المدينة الإسلامية والأصولية والإرهاب: مقاربة جنسية
هل الحرمان الجنسي يفسر الأصولية حقا؟
وهل هو تفسيرها النهائي والأخير أم أنه في حاجة إلى تفسير آخر أعمق منه؟
ليس الحرمان الجنسي هو الأصل في ظهور الحركات الأصولية، وليست القابلية السيكولوجية هي ما يفسر نهائيا تكوين الإنسان الأصولي. قد تكون تلك القابلية مؤثرة، إلا أن الأفكار الأصولية الرائجة لا تنتشر وتؤثر من غير أن يسندها أصل اجتماعي (علاقات اجتماعية). فكلٌّ يخدم مصلحته بنوع من التفسير أو التأويل الديني، بما في ذلك: الحركات الإسلامية، والفقه التقليدي، تيار “الحداثوية”… إلخ. وهكذا، فمن غير الممكن تفسير الانعكاس الفكري بالانعكاس السيكولوجي، لأن كليهما انعكاس لصراعين: صراع مع السيطرة الطبقية الداخلية (سيطرة البورجوازية الكبيرة)، وصراع مع الهيمنة الخارجية (هيمنة الرأسمالية العالمية المتوحشة).
فما هو سبب هذا الربط التعسفي بين الأصولية والانحراف الجنسي إذن؟
وما بال الديالمي يرفض شمولية التاريخي (وهو الأقرب إلى التفسير أكثر من غيره) ويؤسس لشمولية السيكولوجي؟
يعيب عبد الصمد الديالمي على الماركسيين تضخيم العامل الاقتصادي في التفسير، ويرفض أن تُعتمَد المادية التاريخية كعامل أول لتفسير التاريخ. ويأبى تخبطه وفقدانه للتمييز بين العوامل والبنى، بين ما يؤثر وما يفسر منها، بين ما هو منها تفسير نهائي (في الأرض) وما هو تفسير يعوزه تفسير آخر؛ يأبى كل ذلك إلا أن يُسقِطه في: الحديث تارة عن الرأسمالية كمسبِّب للانحراف الجنسي والحرمان الجنسي وغيرهما من الاضطرابات الجنسية، والهوس بالعامل الجنسي تارة أخرى. وبالرغم من تأطيره لحديثه بالنظام الاجتماعي الرأسمالي، فإن هوسه بالعامل الجنسي يجعله يرى الجنس في كل شيء وحدث، وفي كل مكان وزمن.
ولذلك، فإننا نجده، تارة، يقول: “أسقط الإنسان قدسية على بعض الأماكن انطلاقا من تشابهها الشكلي أو الوظيفي مع بعض أعضاء جسده المحرمة المقدسة. إسقاط يتم بشكل لا شعوري تعبيرا عن نسقية إجمالية ضرورية في فعل استيعاب العالم”. ويقول أيضا: “فالعمودية والدائرية مميزات محورية بين الذكر والأنثى، وهي مميزات تسقط على المواضيع الطبيعية والمعمارية لترى فيها بشكل لا شعوري امتدادا شكليا ووظيفيا لأعضاء الجسد المؤسسة للهوية الجنسية. وهي هوية مميزة فاصلة، تتأرجح بين العمودية والأفقية (أو الدائرية)… عمودية المنارة إحالة على المذكر، دائرية القبة إحالة على دائرية الجسد الأنثوي، أثناء الحمل بالخصوص”. (ص 18-23) وبمعيار الديالمي إذن، فإن الصومعة مقدسة لأنها تشبه “العضو الجنسي الذكري”، وكذلك هي القبّة لأنها تشبه “ما يبرز مستديرا من جسد الأنثى”.
ونجده، تارة أخرى، يشبه “الهجرة في المجال” ب”الهجرة في عالم اللذة”، فيقول: “جنسانية تهاجر من الفم نحو الشرج، ثم من الشرج نحو البظر، وهو قضيب غير منجب، فلا يتم الاعتراف إلا بالهجرة النهائية نحو القضيب ونحو سيادته. ومن ثم يتحدد “أمام” الجسد كمنطقة محددة، مميزة بين الذكر والأنثى، بين حضور القضيب وغيابه”. (ص 22) الانتقال من مجال إلى مجال في الجغرافيا شبيه إذن بالانتقال من مجال إلى مجال في جسد الشريك(ة)، وذلك لأن “الجسد جنس وفضاء في نفس الوقت” (ص 22)، كما أن “الجغرافيا فضاء وجنس” في نفس الوقت.
أمكنة العبادة نفسها، لم تسلم من تضمينها دلالات رمزية جنسية، من قِبل الديالمي. فحرمة “القاع”، كمكان للتعبد والخلوة، مستمدة من: تحريم إتيان المرأة من دبرها (قاعها)، احتلال المرأة مكانا بين الحائط والزوج أثناء الممارسة الجنسية. يقول الديالمي: “خلاصة القول، يعني تطبيق مصطلح “القاع” على المجال تشبيه حرمة بعض الأماكن بحرمة الدبر (…) وتحتل المرأة عامة المكان الموجود بين الحائط والزوج في الفراش، حتى تنام بالفعل في قاع القاع، أي في أكثر الأمكنة حرمة. فالقاع هو مكان اللذة الكبرى، إذ كلّما تضخم التحريم ارتفعت اللذة. فهي لذة مزدوجة: لذة الجنس ولذة المس بالمحرّم”. (ص 36)
ليست أمكنة العبادة وحدها التي لم تسلم من تعسف الديالمي، بل إن العبادة أيضا. فانظر إليه يقول: “عند الأذان، كما عند الذروة الجنسية، دعوة مثلثة: دعوة إلى الوصال، دعوة إلى التصفية، دعوة إلى الارتقاء. في الحالتين معا، يخرج المؤمن من وحدته ليندمج مع الآخر، وفي الآخر، في صلة نكاحية و-أو في صلاة جماعية (تفضيل صلاة الجماعة على صلاة الفرد). في الحالتين معا، ينتقل المؤمن من حالة التوتر إلى حالة الانشراح، ومن حالة اللاطهارة إلى حالة الطهارة. فالحالتان معا، الوصال والصلاة، مقرونتان بالطيب في الحديث الذي يقرن بينهما”. (ص 56)
عصا “فقيه الكتاب” نفسها لا تخلو من رمزية جنسية، فهي –في نظر الديالمي-رمز ل”القضيب” (العضو الذكري). يؤدب “فقيه الكتاب” طلبتَه (غلمانه) بعصاه، ويتحرش بهم بذكره. هكذا يربط الديالمي متعسِّفا بين عصا الفقيه وذكره، باعتبارهما قضيبين معا. والغرض من ذلك هو: إثبات “البيدوفيليا البنيوية” في حق “فقيه الكتاب”، مهما كان ذلك أبعد عن الحقيقة. يقول الديالمي: “نجد مثلا شعبيا يقول: “لن تتعلم إلا إذا مررت من تحت بطن المعلم” (ما تتعلم حتى دوز من تحت كرش المعلم). والمقصود بالمعلم هنا إما معلم الحرفة اليدوية وإما الفقيه الذي يسهر على تحفيظ القرآن للأطفال، مستعينا في ذلك بقضيبيه (عصاه وذكره)، ومتمتعا بهما معا”. (4)
… إلى غير ذلك من التفاسير المتعسفة، التي لا هي تحترم العلم في موضوعيته، ولا هي تحافظ على معاييرنا وقيمنا وتديننا وأخلاقنا من غير أن تفكّكها جميعا.
عوض أن يفسر الديالمي الأصولية بشرطها التاريخي، ينزع إلى تفسيرها بالحرمان الجنسي وطمع “الأصوليين المتطرفين” في “حور” الجنة. (استحضار المقاطع والتعليق عليه)
ألا يمكن أن يكون لتفسير الديالمي وجه من الاعتبار؟ بلا، ولكنه لا يُعتبَر إلا على وجه التأثير، أو على وجه تفسير يحتاج تفسيرا أكثر تفسيرا منه (نهائيا في الأرض/ عالم الشهادة). ورد عن محمد عابد الجابري قوله بشأن “الإرهاب”: “إن أمريكا تتصارع مع منتجاتها في الوطن العربي”. الرأسمال هو صانع “الإرهاب”، صنعه أولا بترويج إيديولوجياته ضدا على أدلوجة الاتحاد السوفييتي، وصنعه ثانيا بإمداده بالسلاح في أفغانستان (5)، ثم بتجديده في شروط “فتنة الربيع” بهدف تجزئة الدول ذات السيادة (العراق، سوريا، ليبيا… إلخ). كما أن الرأسمال يسعى عبر وسائله المختلفة (إعلامية وأدبية) إلى تضخيم خطابات بعينها، واستهداف قابليات بعينها. وفي هذا السياق، يدخل طمس الشهادة بالغيب، وتعويض الدنيا بالآخرة، وكذا استدراج الشباب انطلاقا من حرمانهم الجنسي. وهكذا، تنتج الرأسمالية الحرمان الجنسي، وتخاطبه وتستهدفه موظفة إياه لأغراضها (تجزئة الوطن العربي، وتشويه “استراتيجية الإسلام”). (يتبع)
هوامش:
(1): عبد الصمد الديالمي، المعرفة والجنس: من الحداثة إلى التراث، اتصالات سبو، الطبعة الثانية، 2010، ص 76.
(2): نفسه، ص 77.
(3): العكاكزة: فعل ظهر في مغرب القرن 16 م، يقول أصحابه بشيوع جسد المرأة، وبجواز زنا المحارم. (راجع كتاب عبد الصمد الديالمي “المعرفة والجنس”، ص 78)
(4): مجلة زمان، العدد 84.
(5): والقرائن على ذلك عديدة، ولعل أبرزها اعتراف تركي الفيصل (أحد أفراد الأسرة المالكة في السعودية، شغل عدة مناصب: مسؤول استخبارات، سفير في بريطانيا وأمريكا) بالتمويل الثلاثي ل “الإرهاب” في أفغانستان، من قبل أمركا والسعودية وباكستان، وبالطبع فقد كانت أمريكا هي الرقم الصعب في هذا التمويل، كما أنها كانت ذات الاستراتيجية الواضحة فيه. هناك من يسمي ما حدث في أفغانستان مقاومة، إلا أنه في جوهره خدم المصلحة الأمريكية في صراعها ضد الاتحاد السوفييتي، كما أنه كان مقدمة للإرهاب وبداية له، كما سيثبت تعاقب الأحداث التاريخية فيما بعد.