النشاط الجنسي للإنسان بحث معرفي في الطبيعة والانحراف (6) محمد زاوي

 

مدخل:

يعتبر موضوع “النشاط الجنسي” من أهم المواضيع التي تثير الكثير من المواقف المتناقضة، والكثير من الاضطرابات لدى ناشئتنا وشبابنا، وخصوصا في زمننا هذا، حيث اخترقتنا الإشكاليات الزائفة، والتي ليست هي إشكالياتنا حتما، فيما يخص مواضيع الحرية، والحريات الجنسية منها خاصة.

لا بد، إذن، من تصور النشاط الجنسي تصورا سليما، حتى تعيه كافة فئات المجتمع كما هو، ومن ثم تتعامل معه كما هو مطلوب تاريخيا، وكما هو مطلوب في مجتمعات إسلامية يعتبر الدين عنصرا بارزا من عناصر “ثقافتها الوطنية”.

ومن مسؤوليتها التوعوية والتعليمية، ارتأت جريدة “السبيل” أن تتناول موضوع “النشاط الجنسي للإنسان” بشكل مفصل”، فيزيولوجيا واجتماعيا وسيكولوجيا. وذلك، قبل أن تبين لقرائها الكرام تهافت آراء ومواقف “الحداثويين” الذين يستغلون “العلوم” إياها، استغلالا إيديولوجيا، بهدف تفكيك الأسرة وقيمها.

رابعا: تنظيم النشاط الجنسي في الإسلام

1-الشهوة مصلحة يخاطبها الإسلام بدل أن يترفع عنها

بمجرد ما ينطق أحدنا بمفهوم “المصلحة” حتى ينتفض في وجهه الجميع. الكل يرفض الاعتراف بمصالحه، والكل يجري وراءها من غير توقف. ينطلق الرافضون لاعتراف الإنسان بمصالحه من منطلق كون المصالح كلها منكرة، فينسى هؤلاء أن المصالح ليست واحدة. ففيها ما هو معتبر، وفيها ما هو مرسل كذلك. وهذا أمر يعرفه كل دارس للأدلة التي يُنظَر فيها لاستنباط الأحكام الشرعية (وبالضبط الأدلة المختلف حولها).

نعم، يجب ألا يسقط الفرد في رفض مصالحه غير المنكرة، ولكنه بالمقابل مطالب برفض كل مصلحة منكرة. وذلك حتى لا يستغل البعض هذا الخطاب للعيش من غير رادع، وحتى لا يعتدي أحدهم على مصالح الآخرين بحكم أن المصلحة معترف بها مطلقا. قد يكون هذا النوع من المصالح معترفا به عند أصحاب “الأنانية” بلا حدود، ولكنه على كل حال مما لا يمكن أن يكون معترفا به شرعا.

إن خطابي هنا ليس موجها لمن أراد أن يجعل المصالح المنكرة معتبرة، ولكنه موجه إلى كل من أراد أن يحرم الناس من الاعتراف بمصالحهم بحكم أن ذلك مرفوض شرعا أو أنه من أنانية الفرد واهتمامه بنفسه أكثر من اللازم.

قد يتساءل البعض: أين هو الإسلام من كل هذا؟

برجوعنا إلى القرآن الكريم، نجد أن خطابه ركز أيما تركيز على مصلحة الإنسان. وذلك من خلال مسألتين اثنتين:

أولا، الاعتراف بالطبيعة البشرية، ومنها الاعتراف بمصالح الإنسان الطبيعية.

ألم يقف أحدكم مليا عند قوله تعالى: “زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث”؟

نعم، فالإنسان يحب كل ذلك ويطمح إليه. فالشهوات التي يمتعض منها كثيرون، هي التي يقر القرآن بأنها زينت للناس. كل ذلك خير يسيل لعاب الإنسان لأجله، ويتنافس أو يتصارع مع غيره في سبيل الحصول عليه. قد يستسلم البعض منذ البداية فارين من صراع يعتبرونه فتنة، وقد يخوضه الأقوياء بشجاعة وإقبال. فينتصر البعض، وينهزم آخرون. وفي النهاية يقال للمنتصر: “أنت مفتون”، وينتشي المستسلمون والمنهزمون بأنهم نجوا من الفتنة بأعجوبة (وجدنا شيئا من هذا في كتابات علي الوردي). الله هو الذي خلق الإنسان، وهو القادر الوحيد على معرفة كل دوافعه.

أتحسبون الله عابثا -حاشاه- لما قال بتزيينه كل شهوة ذكرت في قلوب الناس؟

هذا قول الله، أما السذج فهم يقمعون مصالحهم بحكم أنها فتنة، وهي عينها المصالح التي يستفيد منها السادة الذين يديرون المعركة في ظروف غير عادلة.

ألم يقف أحدكم عند قوله تعالى: “ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة”؟ وعند قوله: “هن لباس لكم وأنتم لباس لهن”؟

إن الآيتين تدلان على اعتراف الإسلام بحاجة كل أحد إلى زوجه، وهي حاجة تظهر في الإنسان لا محالة إلا إذا كان شاذا عن طبيعته. وبالرغم من هذا، يتداعى علينا أناس ينكرون كل إحساس يقع في داخل الإنسان، ويحظرون كل إعجاب يبديه معجب، ويحرمون كل سؤال قد يطرحه أحد الأطفال أو المراهقين حول تحول من تحولاته الجنسية، ويدعون إلى التسامي فوق كل دافع أو نازع. يتمنى الإنسان لو كان قادرا على كبح كل إحساس أو إعجاب أو سؤال أو نازع، ولكن كيف سيحصل ذلك؟ وهل سبق لأحدكم أن وجد في الإسلام تحريما لأي شيء مما ذكرت؟

الكل يحرم، والكل تأخذه الغفلة، وما هي بغفلة، ولكنها طبيعة الإنسان السوي.

يعترف الإسلام بطبيعة الإنسان، ولكنه لا يتركها منفلتة من غير رادع. إنه يريد لها أن تصرف وفق الوجه اللائق، وما أحوج الشباب إلى أن يجد من يعينه على إتيان هذا الوجه. أما الاكتفاء بترديد الأماني، قد ينفع في تحقق الامتناع والفرار المؤقتين، ولكنه لن ينفع في الحفاظ على الإنسان السوي الذي يصرف انجذابه إلى جنسه الآخر دون غيره ويعيش الحب والجنس معا في ممارسته الجنسية.

يعترف القرآن بحاجة الإنسان وطبيعته، ولكن الأسر تخلق داخلها جوا من الخوف من كل ما هو طبيعي. فيخاف كل أفراد الأسرة من البوح بالطبيعة في العلن، ولكنهم يعيشونها في السر بأبشع الطرق. والغريب هو أنهم يفعلون كل ذلك باسم الدين، ونحن لا نرى هذا الأخير إلا معترفا بكل طبيعة بشرية. إن هذا النوع من المنع هو الذي ينشئ كل انحراف، ويجعل من المرأة جسدا لا غير، ويمهد لكثير من المشاكل الاجتماعية والمواقف الانتهازية الخنوعة.

ثانيا، وضع خطاب يخاطب مصلحة الإنسان قبل كل شيء.

يظن بعض الوعاظ والفقهاء وأهل العلم أن الله تعالى يخاطب أحدا آخر غير الإنسان، في حين أن ذات الخطاب موجه لمن لا يتحرك إلا وفق ما يوافق رغباته وينميها. إن الدين يسعى إلى ترقية كل مصلحة، فمن يجد ذاته في القراءة والتفكير للبشرية، ليس كمن يجدها في إشباع البطن والفرج لا غير. ولكن الحقيقة التي يجب معرفتها هي أن الدين لا يترفع على مصالح الناس، بل إنه يخاطبها ويخاطبها بقوة.

ألم يقف أحدكم أيها القراء وهو يقرأ القرآن على ما فيه من مخاطبة للدوافع والنوازع والرغبات والمطامح؟ ألم يقف أحدكم على كل حكم تتبعه مصلحة أو يحققها انطلاقا من الفهم العام للإسلام؟ ومن يتحدى هذا القول، فليأت بآية واحدة بعيدة عنه كل البعد.

عن أي شيء تريدونني أن أتحدث لكم؟ عن الإيمان؟ أم عن أحكام العبادات؟ أم عن أحكام المعاملات والجنايات والنكاح؟ أم عن الأخلاق؟

إن كل أمر أو نهي يدخل في باب من هذه الأبواب، لن تجده إلا مخاطبا لمصلحة من مصالح الإنسان. والمصالح ها هنا ليست دنيوية فقط، بل هي أخروية كذلك. وكل مصلحة أخروية لن تكون أبدا ضد المصلحة الدنيوية مهما حصل، إلا إذا كانت هذه الأخيرة مصلحة منكرة تهلك الذات وتؤذي الآخرين.

2-تنظيم النشاط الجنسي في الإسلام: بين المثال والواقع

لا يواجه أحد الإسلام كدين خالص منسحب من كل معركة قائمة، بل إن الرأسمالية المتوحشة تكيد له المكائد (تحريفا واستغلالا وفق ما يخدم أغراضها الدنيئة) لسببين هما:

– كون الإسلام يحفظ الأسرة، وبالتالي الدولة.

– كون الإسلام يحفظ النسل وينفخ الروح في أجيال جديدة تمضي باستراتيجيته وتنافح عنها.

فما هي استراتيجية الإسلام إذن؟

الكليات الخمس، هي ما يجب قراءته على ضوء شروطنا التاريخية الحالية. وهي نفسها المستوعبة لاستراتيجية الإسلام بحق، حيث النظر في المقاصد ووسائلها دون أن تنفي إحداهما الأخرى.

فليس التجديد هو التراجع عن الأحكام العملية في زمن الانتكاس، وإنما هو البحث لها عن سبل الاستثمار في هذا الزمن بالذات. فما دام السياق سياق تفكيك رأسمالي، وما دام المستهدَف هو الإسلام (دين الاستقلال والاشتراكية والتنوير والسلم والمقاومة…)، فليرابطِ المرابطون وليتبِ الخطّاؤون.

غايات الإسلام الكبرى –كما استنبطها علماء الإسلام-هي:

حفظ الدين، وهذا هو المستهدف بغرض الرجوع إلى “الغابوية” و”الغريزية”.

حفظ النفس، وهذه هي المستهدفة حتى يعيش المالكون الكبار وحدهم.

حفظ العقل، وهذا هو المستهدف ليمارَس التدليس والتجهيل على الناس نهارا جهارا.

حفظ النسل، وهذا هو المستهدف حتى لا تبقى أسرة، فلا يتزايدَ نمو سكان العالم ملوّحا بإنهاء علاقات الإنتاج الرأسمالية.

حفظ المال، وهذه هي غاية الغايات بالنسبة للرأسمالية المتوحشة. فليمت الجميع، ولتعش الطغمة الرأسمالية وحدها على فائض القيمة في المراكز والأطراف معا.

(لن نهتم بترتيب الكليات كثيرا، فقد اختلف فيه العلماء بمختلف مدارسهم ومذاهبهم. ولكننا سنقدم قراءة في هذه الكليات على ضوء ما جاء في الإسلام، وما نعيشه اليوم من أزمات وفتن يصدرها الغرب الرأسمالي إلينا)

بهدف الحصول على فائض القيمة بلا انقطاع ولا تراجع، وبهدف استمرار الرأسمالية المتوحشة مهما احتُضِرت، تُرفع خمسة شعارات كبرى:

– الإلحاد والاستهزاء بالأديان.

– القتل والإرهاب.

– التجهيل والتدليس.

– قطع النسل وتشتيت الأسر.

– التفقير والربح بلا قيود.

الهدف من رفع هذه الشعارات هو ضرب الأفراد والمجتمعات والدول في آن واحد، وما يهمنا نحن هنا هو:

– ضرب الأسر بسوء أخلاق الأفراد وانحطاط قيمهم ودفعهم إلى الزهد في الأسر والجنسُ متاح.

– ضرب الأفراد بالأسر بعد تشتيتها وإفقادها أدوارها التاريخية (التربية على قيم الوطنية والانضباط والاحترام والطاعة…).

– ضرب الدول بتشتيت الأسر، وبالتالي بإفقاد المجتمع تماسكه وقيمه وكل قانون أو حكم يضبط سلوك أفراده.

الأسرة مستهدفة بداية، وقبلها الأفراد. وذلك باللعب على أوتار الغريزة الجنسية، حيث يتبارى أصحاب رؤوس الأموال في إحيائها وإيقاظها بلا قيود تحدها وتضبطها.

وإن الإسلام ليأبى اليوم، كما كان من ذي قبل، إلا أن يصمد باستراتيجيته أمام كل هذه التحديات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *