خدمة علمية للمجتمع.. في سبيل تصور سديد لـ”الجريمة” ودوافعها ومداخل الحدّ منها

 

 

مدخل

كغيره من مجتمعات العالم، لا يخلو المغرب من جريمة تقع في هذه المدينة أو تلك. وبالرغم من المجهودات المبذولة في مغرب اليوم، لمحاصرة الجريمة والحدّ منها، فإنها تأبى إلا أن تظهر معبّرة عن دوافعها الاجتماعية، ثم السيكولوجية (فلا يمكن فصل السيكولوجيا عن المجتمع). وكل سنة، كهذه السنة (2020)، تتكرر جرائم بعينها، في كل من سلا والدار البيضاء ومراكش وأكادير وفاس وتطوان… وفي غيرها من الحواضر الكبرى والصغرى للمغرب.

القتل، التهديد بارتكاب جريمة، الإعداد للإرهاب، الاغتصاب، التغرير بقاصر، الترويج للمخدرات، السرقة… إلخ؛ كلها وغيرها، جرائم تتكرر في المغرب، بين سنة وأخرى، وعلى امتداد الجغرافية المغربية.

تتكرر مظاهر الجريمة، فتُحدِث عند المواطن صدمات ومخاوفَ؛ وهو ما يجب أن يرتفع وينتهي ببذل كبير مجهود، من محاربةٍ للجريمة على أعلى المستويات السياسية (السياسات العمومية المواكبة) والتشريعية (القانون) والتربوية (المدرسة والمسجد والإعلام… إلخ) التي تتولاها الدولة بمختلف مؤسساتها، ومن توعيةٍ تبذلها الهيئات والحركات والنخب في المجتمع.

لا بد إذن، من التعريف بالجريمة، والإحاطة بمختلف المدارس المفسّرة لها، والبحث في سبل محاربتها انطلاقا من خصوصياتنا الثقافية والوجدانية، ومعرفة مدى تأثرها بالظروف المستجدة (فيروس كورونا وما رافقه من فرض لحالة الطوارئ، خصوصا)… إلخ.

ما هي الجريمة؟ وما هي أركانها؟

لكل مجتمع معايير وقيم جمعية، حيث تنزع هذه المعايير والقيم إلى ممارسة سلطة على الأفراد ومنعهم عن ارتكاب فعل غير مقبول داخل المجتمع. والجريمة هي مخالفة تلك القيم، والانحراف عنها. ودائما ما تكون الجريمة اعتداء إما على: أمن الدولة، أو أرواح الأشخاص، أو أموالهم، أو الأخلاق العامة والشرائع الدينية، أو الثقة العامة. وعلى هذا الأساس يتم تقسيم الجرائم، في القانون الجنائي الخاص (المغرب)، إلى:

– جرائم أمن الدولة.

– جرائم الأشخاص.

– جرائم الأموال.

– جرائم الأخلاق العامة والشعائر.

– الجرائم المخلة بالثقة العامة.

أما أركان الجريمة، فهي ثلاثة أركان:

الركن القانوني: فالقانون هو الذي يحدد الفعل المجرَّم من عدمه، يحدد الجريمة والعقوبة المخصصة لها. فلا جريمة إلا بنص قانوني، وكل فعل لم ينص القانون على تجريمه، فهو ليس بجريمة.

الركن المادي: لا تكون الجريمة جريمة، من الناحية المادية، إلا إذا كان الفعلُ المادي إجراميا، والنتيجةُ ضرر يحصل للمعتدى عليه، وإذا تحققت بين الفعل المادي والنتيجة علاقة سببية.

الركن المعنوي: لا تكون الجريمة كذلك، من الناحية المعنوية، إلا بتحقق القصد، أي تلك العلاقة بين النشاط الذهني للفاعل وفعله المادي، وبتعبير آخر: بين إرادته والفعل الإجرامي الذي صدر عنه.

مختلف المدارس التفسيرية للجريمة في “علم الإجرام”

هي خمس مقاربات، يمكن اعتمادها بداية لتفسير الجريمة:

المقاربة الكلاسيكية: من روادها البارزين: سيزار بيكاريا، جيرمي بينتام، فيليب بينال… إلخ. وتقوم هذه المقاربة على أساس التفسير الفلسفي للسلوك الإجرامي، من قبيل التأمل التجريدي في “مدى ملاءمة العقوبات للفعل الإجرامي” (بيكاريا)، و”المنفعة كمدخل للحد من الجريمة” (بينتام)، و”المسؤولية الجنائية في علاقتها بالمرض العقلي” (بينال)… إلخ.

المقاربة الوضعية: وهي ثلاث مدارس: المدرسة الإيطالية (سيزار لومبروزو)، المدرسة الأنثروبولوجية الأمريكية (أرنست هوتون، وليام شيلدون)، مدرسة التحليل النفسي (سيغموند فرويد). عموما، تُرجِع هذه المدارس أسباب الجريمة إلى ما يثر في الفرد من داخل ذاته، من قبيل: محض ما يعتمل في ذات الفرد من توترات نفسية (فرويد)، ما تتصف به الذات من صفات خِلقية وعضوية (لومبروزو، هوتون، شيلدون).

المقاربة الاجتماعية: وهي أربع مدارس: المدرسة الجغرافية (جيري، كيتلي)، المدرسة الاقتصادية (بونجر)، المدرسة الاجتماعية (غابريال تارد، إميل دوركايم، ميلتون)، المدرسة الثقافية (ساترلند). عموما يُرجع رواد هذه المقاربة أسباب الجريمة إلى ما يؤثر في ذات المجرم من خارجها: الجغرافيا وعوامل المناخ والطبيعة، النظام الاجتماعي وعلاقاته الاجتماعية وقاعدته الاقتصادية، ظروف المجتمع وطبيعة العلاقة بين أفراده، ظروف التعليم والتربية وتبادل الخبرات والمعلومات والمهارات… إلخ.

المقاربة التوفيقية: أحد أبرز روادها، هو بينينيو دي تيليو. وهي مقاربة تعتمد التوفيق بين المقاربتين العضوية والاجتماعية، إذ أن المجرم لا يتأثر بالعوامل الاجتماعية (الخارجية) إلا إذا كان ذا قابلية عضوية (داخلية) لارتكاب الجريمة، ولا يرتكبها إلا إذا أثار مؤثر خارجي قابليته الداخلية.

المقاربة الحديثة: وهي مقاربة لا تهتم بالمجرم والعوامل التي دفعت به إلى ارتكاب الجريمة فحسب، بل تتعدى هاذين العنصرين إلى: الظروف الخاصة التي ارتكِبت فيها الجريمة، الضحية وموقعها في الفعل الإجرامي.

تعليق:

المطلوب هو استحضار كل هذه المقاربات في تفسر السلوك الإجرامي، إلا أن استحضارها بغير ترتيب “لا أدرية” ما بعدها “لا أدرية”، و”نسبية مطلقة” لا “نسبية نسبية”، وخلط بين “التأثير/ التأثر” و”التحديد/ التحدد”، وبحث عن الحقيقة في “الشعور” لا في “الشرط التاريخي” و”النظام الاجتماعي”… إلخ. “التأملات الفلسفية” نفسها إيديولوجيات تعكس واقعا اجتماعيا ما، و”القابليات الوضعية” تفاسير لا تفسر شيئا، وليس الإنسان خاضعا لجبرية الجغرافيا والاقتصاد والمجتمع بل فاعل فيها ومؤثر. قد يفي الوصف بغرض “التصور الوضعي”، وفي تحديد بعض المؤثرات، إلا أنه لا يكفي لتحديد الجذور العميقة للجريمة.

الإسلام ودوره في محاربة الجريمة

يتجلى دور الإسلام، في محاربة الجريمة، في:

– حسم عروق القابليات الداخلية لارتكاب الجريمة: ويتحقق ذلك بالنهي عن ارتكاب الجريمة وما يؤدي إليها، التحذير من العقاب الأخروي المترتب عن ارتكاب الجريمة، تهذيب النفس بالتزام الشعائر ومكارم الأخلاق، فتح باب الأمل والتوبة

– تبني مقاربة زجرية لمنع الجريمة: وذلك، من خلال تحديد الجرائم وعقوباتها. فإما تكون الجرائم جرائم حدود، فتكون العقوبة حدودية. وإما تكون الجرائم ما دون جرائم الحدود، فتكون العقوبة تعزيرية.

إن هذا الدور بتجلياته، هو ما يجب أن يُبنى عليه، في كلّ قطر من أقطار الوطن العربي الإسلامي. إنه رصيد تربوي وتشريعي ليس من المقبول إضاعته، وإلا فقدنا ارتباطنا بذاكرتنا. وتلك هي بداية الارتباك والفوضى، وهو ما نرى ظهور بعض بوادره اليوم. وبالرغم من الجهود المبذولة من قبل الدول والمجتمعات، كل حسب مسؤولياته والمهام المنوطة به، فإن الارتباك قد تسلل إلينا، عبر مدخلين:

– المطالبة بنفي تشريع بتشريع، بحجة اللحاق بالغرب الحداثي، من قبل أفراد وهيئات حقوقية دولية (وكلهم عولميون).

– تفكيك القيم والرصيد الأخلاقي والشعائر والعقائد، من قبل جمعيات ومراكز أبحاث ونخب تشتغل بدعم من مؤسسات غربية (رأسمالية)، وبتوجيه منها أيضا.

وعن هذا، ينتج إفقاران: إفقار قيمي يحول دون الحفاظ على مناعة في مواجهة القابلية للجريمة، إفقار تشريعي يحول دون حصول الانتقال المتدرج من منطق إلى آخر في قضايا التشريع.

الجريمة على ضوء مستجد فيروس كورونا

– في العالم:

لم يكن تجار المخدرات والمجرمون بمنأى عن تأثير فيروس كورونا، الذي اجتاح العالم انطلاقا من الصين في أواخر ديسمبر الماضي، وتسبب بوفيات تجاوزت حاجز ال109 آلاف.وذكر تقرير لشبكة “سي إن بي سي” الأميركية أن جائحة كورونا تسببت في “شل عمل تجار المخدرات”، وخفضت عدد الجرائم الأخرى، مثل القتل والسطو والسرقة، على مستوى العالم بشكل “غير مسبوق”.

ففي شيكاغو، التي تعد واحدة من أكثر المدن عنفا في الولايات المتحدة، تراجعت عمليات التوقيف المتعلقة بالمخدرات بنسبة 42 بالمئة في الأسابيع التي تلت إغلاق المدينة، مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي.وقال جوزيف لوبيز، المحامي الجنائي في شيكاغو، المختص في قضايا تجارة المخدرات: “على ما يبدو أنهم غير قادرين على التحرك من أجل البيع في أي مكان في ظل الإغلاق الذي تشهده الولايات المتحدة منذ أسابيع بسبب تفشي فيروس كورونا”.

وأفادت الشبكة الإخبارية الأميركية في تقريرها بتراجع الجرائم في شيكاغو بنسبة 10 بالمئة بعد تفشي الوباء، وهو اتجاه يبدو عالميا في عدد من المدن الكبرى التي سجلت انخفاضا كبيرا في الجرائم خلال الأسابيع الماضية. ففي أميركا اللاتينية، انخفضت الجريمة إلى مستويات غير مسبوقة منذ عقود، وسجلت السلفادور متوسط قتيلين يوميا الشهر الماضي، وهو ما يمثل انخفاضا كبيرا مقارنة بأرقام سابقة.أما في بيرو، فقد انخفضت مستويات الجريمة بنسبة 84 بالمئة الشهر الماضي، لا سيما جرائم القتل، التي كانت تصل عادة يوميا في العاصمة ليما إلى 15 حالة.وفي جنوب أفريقيا، أبلغت الشرطة عن انخفاض كبير في الجرائم خلال الأسبوع الأول من إجراءات الإغلاق بسبب تفشي فيروس كورونا مؤخرا في البلاد.وأفاد المسؤول عن قوات الشرطة في البلاد بيكي سيلي، بأن حالات الاغتصاب انخفضت من 700 إلى 101 خلال نفس الفترة من العام الماضي، كما تراجعت حالات الاعتداء الجسيمة من 2673 إلى 456، وانخفضت جرائم القتل من 326 إلى 94 حالة فقط.

في المغرب: (تراجع المظهر العام للجريمة بين سنتي 2019 و2020)

أبرزت المديرية العامة للأمن الوطني في إحصائية، نشرتها الأربعاء 15 أبريل 2020، أن المظهر العام للجريمة تراجع بنسبة 20%، بعد تسجيل ناقص 10 آلاف و867 قضية، خلال شهر مارس الماضي، مقارنة مع نفس الفترة من السنة الماضية.

وأشارت الإحصائية إلى أن نسبة السرقات بالنشل والخطف انخفضت ب24%، وكذا الجرائم الاقتصادية والمالية بـ23%، مسجلة في المقابل بروز أنماط إجرامية جديدة، والمتعلقة بأزمة انتشار فيروس كورونا المستجد، كالنصب بدعوى جمع التبرعات، والمضاربة في أثمان الكمامات الوقائية، وصناعة مواد تعقيم مزيفة.

وفي سياق متصل، أبرزت مديرية الأمن أن الجرائم المقرونة بالعنف تراجعت نسبتها أيضا، مع تسجيل مؤشرات انخفاض كبيرة في مختلف أنواع هذه الجرائم، كالاعتداءات الجنسية بنسبة 41%، والسرقات الموصوفة بنسبة 28%-، والسرقات تحت التهديد بالسلاح الأبيض بنسبة 52%.

وانخفضت نسبة الجرائم المتعلقة بالضرب والجرح المفضي للموت، حسب ذات المصدر، إلى ناقص 250%، وكذا جرائم القتل العمد إلى ناقص 67%، ومحاولات القتل العمد إلى ناقص 175%.

تعليق:

تزامنا مع تفشي فيروس كورونا، بلغ تدخل الدولة حدوده القصوى. وهذا التدخل هو ما نتج عنه انخفاض معدل الجريمة عالميا، بسبب القيود التي فرِضت على الحركة، كأقصى حظر يمكن أن تصله الدولة في علاقتها بمواطنيها الأحرار (خارج السجن) والأسوياء (خارج مستشفيات الأمراض العقلية).

وهذا يحيلنا على نقاش مهم: إلى أي حدّ تتنازل الدولة عن مهامها في ضبط المواطنين، خلال الأيام العادية؟ وهل يكون ذلك التنازل بسبب ضغوط خارجية أم داخلية؟ أم بسبب حسابات ومصالح الدولة نفسها؟

لقد فرضت ليبرالية الرأسمالية المتوحشة على الدولة نوعا من التراجع إلى الوراء، ليس اقتصاديا فحسب، بل ثقافيا وسياسيا أيضا. تلك هي الفوضى التي تتسلل منها الجريمة، بالرغم مما يقال عنها من مادحيها، الذين يجعلون من الفوضوية “نظرية” برنامجا سياسيا لهم، ومن “حرية التملك والاستغلال” حجة لمضاعفة الاستغلال واحتكار رؤوس الأموال ووسائل الإنتاج… إلخ.

وبقدر ما نطالب الدولة بقسط من الحرية، فإننا ندعو إلى حضورها وتدخلها. إنها صمّام الأمان، بعيوبها، في مجتمع بلغ منه الاختراق الثقافي والسياسي مبلغه. هذا ولا تتدخل الدولة بأجهزتها المادية فقط، بل بأجهزتها الإيديولوجية أيضا. فليس السجن والمحكمة ومقر الشرطة هي وحدها الوسائل الكفيلة بمحاربة الجريمة، بل إن ذلك يتم أيضا بتدخل الدولة تدخلا ناجعا ومطلوبا في الإعلام والمدرسة والمسجد… إلخ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *