“..صحة الفهم وحسن القصد من أعظم نعم الله التي أنعم بها على عبده، بل ما أعطي عبد عطاء بعد الإسلام أفضل ولا أجل منهما” (ابن القيم)
قال تعالى: “وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ، فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ” الأنبياء.
عن أبي جحيفة وهب بن عبد الله السَّوَائي قال: “قلت لعلي: هل عندكم شيء من الوحي مما ليس في القرآن؟
فقال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن وما وفي الصحيفة.
قلت: وما في هذه الصحيفة؟
قال: العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر” البخاري.
وعن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه، ذكر النبي صلى الله عليه وسلم قعد على بعيره وأمسكه إنسان بخطامه قال: “أي يوم هذا؟” فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه، قال: “أليس يوم النحر؟” قلنا: بلى، قال: “فأي شهر هذا؟” فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: “أليس بذي الحجة؟” قلنا: بلى، قال: “فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ليبلغ الشاهد الغائب فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه” البخاري.
وعن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه قال: “مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا، فكان منها نقيّة قبلت الماء، فأنبتت الكلأَ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء، ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلَّم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به” البخاري.
قال الخطيب البغدادي رحمه الله: “قد جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث مراتب الفقهاء والمتفقهين من غير أن يشذ منها شيءٌ، فالأرض الطيبة: هي مثل الفيه الضابط لما روى، الفاهم للمعاني، المحسن لردِّ ما اختلف فيه إلى الكتاب والسنة، والأجادب الممسكة للماء التي يستقي منها الناس هي مثل الطائفة التي حفظت ما سمعت فقط وضبطته وأمسكته حتى أدته إلى غيرها محفوظا غير مغير، دون أن يكون لها فقه تتصرف فيه.
ولا فهمٌ بالرد المذكور وكيفيته لكن نفع الله بها في التبليغ، فبلغت إلى من لعله أوعى منها كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “رب مبلغ أوعى من سامع، ورب حامل فقه ليس بفقيه”.
ومن لم يحفظ ما سمع ولا ضبط فليس مثل الأرض الطيبة ولا مثل الأجادب، بل هو محروم، ومثله مثل القيعان التي لا تنبت كلأ ولا تمسك ماء” الفقيه والمتفقه 1/49.
قال ابن القيم رحمه الله: “صحة الفهم وحسن القصد من أعظم نعم الله التي أنعم بها على عبده، بل ما أعطي عبد عطاء بعد الإسلام أفضل ولا أجل منهما، بل هما ساقا الإسلام، وقيامه عليها، وبهما يأمن العبد طريق المغضوب عليهم الذين فسد قصدهم، وطريق الضالين الذين فسدت فهومهم، ويصير من المنعم عليهم الذين حسنت أفهامهم وقصودهم، وهم أهل الصراط المستقيم الذين أمرنا أن نسأل الله أن يهدينا صراطهم في كل صلاة، وصحة الفهم نور يقذفه الله في قلب العبد، يميز به بين الصحيح والفاسد، والحق والباطل، والهدى والضلال، والغي والرشاد، ويمده حسن القصد، وتحري الحق، وتقوى الرب في السر والعلانية، ويقطع مادَّتََةَ اتباع الهوى وإيثار الدنيا، وطلبُ محمدة الخلق، وترك التقوى” إعلام الموقعين 1/87.
وقال أيضا:
“والمقصود تفاوت الناس في مراتب الفهم في النصوص، وإن منهم من يفهم من الآية حكما أو حكمين، ومنهم من يفهم عشرة أحكام أو أكثر من ذلك.
ومنهم من يقتصر في الفهم على مجرد اللفظ دون سياقه ودون إيمائه وإشارته، وتنبيه واعتباره، وأخص من هذا وألطفُ ضمُّه إلى نصٍّ آخرَ متعلّقٍ به فيفهمُ من اقترانِه به قدرا زائدا على ذلك اللفظ بمفرد.
وهذا باب عجيبٌ من فهم القرآن، لا يتنبه له إلا النادرُ من أهلِ العلمِ، فإنَّ الذهن قد لا يشعر بارتباط هذا بهذا وتعلقه به، كما فهم ابن عباس من قولِه تعالى: “وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً” مع قوله: “وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ” أن المرأة تلد لستة أشهر..
إلى آخر كلامه رحمه الله. (اختصره العلامة القرآني محمد الأمين الشنقيطي في أضواء البيان 4/721).