تهميش اللغة العربية في التعليم والإعلام والاقتصاد والإعلانات التجارية ومزاحمتها بالدارجة حينا وبالفرنسية أحيانا لن نجني منه غير مزيد من الضياع والتخلف وإهدار للزمن التنموي ولما يزخر به بلدنا من طاقات بشرية هائلة..
ما تزال الفرنسة في المغرب تُسيل الكثير من المداد، ولا يبدو أن الجدل الدائر حول هذه اللغة الأجنبية سينتهي في الأمد القريب أو حتى المتوسط.
حكاية المغاربة مع الفرنسة (فرض اللغة الفرنسية على المغاربة ضدا على إرادتهم وتطلعاتهم) تعود إلى مطلع القرن العشرين، حين شرعت فرنسا في التنزيل الميداني لمخططاتها الرامية لإخضاع المغرب واحتلاله.
فلم يكن لقاء المغاربة بالفرنسية يوما لقاء اختياريا تمليه الرغبة في الانفتاح والتثاقف مع الآخر وغيرها من الشعارات الرنانة التي لا يمل أنصار الفرنسة من ترديدها على أسماعنا في هذه الأيام، بَلْهَ أن يكون ذلك لاعتقاد الشعب المغربي -حاشاه- أن الفرنسية سبيله الأوحد لتحقيق التقدم والازدهار.
لقاؤنا -نحن المغاربة- مع الفرنسية كان لقاء مستعمَر تابع خاضع، مع مستعمِر مهيمن غاشم.. لقاء أقوام يراهم ذاك المستعمر على أنهم أناس بدائيون متخلفون غارقون في الجهل والتخلف والظلام، برجل أبيض متعجرف يظن أنه مركز الكون والمالك الأوحد لمفاتيح الرقي والتقدم والازدهار.
هذه الثنائية البائسة -وبعد مرور أزيد من نصف قرن على “الاستقلال”!- هي التي ما تزال تحكم علاقة المغاربة بهذه اللغة الأجنبية؛ فما زال بين ظهرانينا أقوام يزعمون -بلا حياء ولا خجل- أن الفرنسية هي لغة العلم والرقي والحضارة، وأن كل الأبواب دون هذا الثلاثي المحبوب المرغوب موصدة مغلقة ولا شفيع لولوجها إلا الفرنسية، وأما العربية فلا تكاد تصلح -عند هؤلاء- إلا لأداء بعض الطقوس الدينية كما اللغة اللاتينية عند بعض الكنائس النصرانية.
ولم تستطع الفرنسية في المغرب (وفي غيره من مستعمرات فرنسا “السابقة”) أن تتخلص من هذه الروح الاستعلائية المتعجرفة؛ فما تزال تمثل أداة للهيمنة والإقصاء والتمييز حتى بين أبناء البلد الواحد؛ فأبناء “النخبة” المفرنسة الذين يرضعون الفرنسية من أثداء أمهاتهم يحظون بأعلى المناصب، ويهيمنون على مراكز التأثير والقرار، لا لذكائهم ونبوغهم، بل لرطانتهم بلسان المستعمر الفرنسي.
أما أبناء عموم الشعب فلا يكاد يصل منهم أحد لشيء ذي بال من تلكم المناصب والمراكز والمهن الراقية، بل إن كثيرا منهم يضطر لوضع حد لمساره الدراسي، أو يجد نفسه مجبرا على التنازل عن طموحاته الدراسية والمهنية، بسبب اصطدامه بعقبة الفرنسية الكؤود.
هذا الوضع الغريب الذي كنا نعيشه مع هذه التركة الاستعمارية المزعجة كان غالب المغاربة يطمحون للتخلص منه بشكل نهائي باستكمال عملية “التعريب” لتشمل التعليم العالي الذي ضل حكرا على الفرنسية منذ دخول الاستعمار، لكن الذي حصل كان مخيبا وصادما؛ حيث شهدت السنوات الأخيرة اكتساحا للفرنسية بشكل لم يكن ليخطر ببال حتى أشد الناس تشاؤما في هذا البلد.
فبعد عقود من التعريب تمت العودة إلى تدريس المواد العلمية باللغة الفرنسية منذ سنة 2014 في السلك الثانوي التأهيلي عبر ما سمي بـ”المسالك الدولية خيار فرنسية”، وسنة 2017 في السلك الثانوي الإعدادي، عبر المسالك الدولية خيار فرنسية، ليمتد طوفان الفرنسة إلى السلك الابتدائي سنة 2019، عبر “التناوب اللغوي” في مواد التفتح العلمي، ولم يبق أمام اللوبي الفرنسي في هذا البلد “إلا أن يخترعوا حُقنة تُحقَن بها النساء الحوامل، حتى إذا وضعن حملَهن، وضعنَ أطفالًا يتكلمون الفرنسية من أول يوم في حياتهم” كما قال الدكتور عبد العالي الودغيري.
ولا ريب أن الفرنسة بحد ذاتها، إضافة إلى هذا التسرع الغريب في فرضها في مختلف الأسلاك التعليمية سيكون له أثار مدمرة ووخيمة على جودة تعلمات التلاميذ؛ لعدم إجادتهم للحد الأدنى من هذه اللغة الأجنبية، فضلا عن العبء المضاف على كاهل أساتذتهم حيث يشكو كثير منهم من صعوبة بالغة في التواصل بهذه اللغة، لتتحول اللغة هنا من كونها مجرد أداة للتواصل، إلى كونها غاية في حد ذاتها يجتهد كل من المدرس والمتعلم في محاولة إتقان التواصل بها، وأما المادة المُدرَّسة وما يرتبط بها من معارف ومفاهيم وقيم ومهارات فستصبح في خبر كان. وهذا ما بدأت تفصح عنه النتائج الدراسية الكارثية التي بدأنا نتسامع ببعضها، ولعل القادم والمسكوت عنه أعظم من ذلك بكثير.
والغريب أن هذا الإصرار والاستماتة في فرض الفرنسية على المغاربة يأتي في وقت تشهد فيه هذه اللغة تراجعا كبيرا وغير مسبوق في المجال التداولي العالمي، ويظهر هذا جليا على مستويين اثنين:
المستوى الكمي: حيث تراجعت رقعة انتشار الفرنسية في العالم، وانهارت نسبة الناطقين بها ومستخدميها على الصعيد الدولي، وأضحى موقعها أمام لغات مثل الإنجليزية والإسبانية والعربية على سبيل المثال في غاية التواضع إن قيس بما كان عليه الأمر قبل جيل من اليوم.
أما على المستوى النوعي: فيتمثل في تراجع الفرنسية كلغة علم وتقنية وفكر وإبداع أمام غيرها من اللغات التي هي أكثر تأثيرا في حقل المعرفة اليوم. واللغة كما يقول الدكتور عبد الإله بلقزيز “لا تكون قوية إلا متى كانت لغة مجتمع ينتج العلم والمعرفة والتقانة والآداب الفنون على أرفع مستوى ومثال، وليس ذلك حال فرنسا في هذا الزمن؛ ففرنسا دون الولايات المتحدة وبريطانيا في إنتاج العلم والتقانة، وثقافتها دون الثقافة الألمانية في الإنتاج الفكري والفلسفي، وهي دون الثقافات الإسبانوفية في الإنتاج الأدبي، كما أن نسبة حضورها في إنتاج القيم الفكرية والعلمية في العالم هزيلة هزالة نسبتها في الإنتاج الاقتصادي والتكنولوجي على الصعيد الكوني”.
إن الفرنسية اليوم – وإن كابر المكابرون لمصالح يلهثون وراءها أو إيديولوجيا أصمت آذانهم وأعمت أبصارهم – أصبحت تمثل أكبر العوائق والعقبات أمام الانفتاح البناء على الإنتاجات العلمية والمعرفية والتقنية العالمية.
وهنا يحق لنا أن نتساءل بمرارة: لماذا نقدم أجيالا من أبنائنا وفلذات أكبادنا قرابين مجانية لإحياء هذه اللغة الاستعمارية، في الوقت الذي نرى فيه الأمم والشعوب الحرة المستقلة تسابق الزمن لإعلاء مكانة لغاتها الوطنية، مع الانفتاح المستبصر على لغات العصر الكبرى كالإنجليزية والإسبانية والصينية التي يتداولها ملايين البشر حول العالم؟!
إن تجارب الدول من حولنا تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن الأمم والشعوب إنما تتقدم باعتماد لغاتها الأم، فقد أكدت التقارير والدراسات أن التعلم باللغة الأم يعد الحافز الأول على الإبداع والمعين الجوهري والسند المتين في اكتساب العلوم والمعارف، وهذا ما تنبهت له الدول الرائدة في مجال التنمية والتي لزمت في تعليمها لغاتها الأم وركزت عليها في تعاملاتها لإدراكها أهمية ذلك في نهضتها التنموية.
وسبق لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة -اليونسكو- أن أوصت أثناء تخليدها لليوم العالمي للغة الأم في 21 فبراير 2016 بضرورة التدريس باللغة الأم كاشفة في تقاريرها حول الموضوع “أن أفضل الدول الرائدة عالميا تدرس بلغاتها الأصلية”، كما أكدت دراسات أممية أخرى أن 19 دولة تتصدر العالم تكنلوجيا يرتكز تعليمها على اللغة الأم وعليها يرتكز البحث العلمي.
وفي دراسة حديثة أجريت حول أفضل 500 جامعة عالمية في 35 دولة تبين أنها جميعا تدرس بلغاتها الأم.
وهنا نذكر بتجربة دولة إسلامية حاولت تدريس مواد علمية باللغة الأجنبية، وما آل إليه أمرها.
ويتعلق بتجربة ماليزيا في اعتماد اللغة الإنجليزية في تعليم مبادئ العلوم والرياضيات بدل اللغة الماليزية، ووصف هذا المشروع بأنه “التنازل الأهم في مسيرة الصناعة الاقتصادية الماليزية”.
وبعد 06 سنوات من التجربة قررت ماليزيا إيقاف مشروع تدريس الرياضيات والعلوم باللغة الإنجليزية والعودة إلى التدريس باللغة الماليزية «المالوية».
وحسب ما جاء في القرار فإن السبب هو أن الدراسات التي أجريت على أكثر من 10 آلاف مدرسة أثبتت فشل التجربة وأن التدريس بالإنجليزية (بغير اللغة الأم) أدى إلى تدهور مستوى الطلبة على المدى البعيد، وتدهور في مستوى أدائهم في الرياضيات.
وأما الخبراء التربويون فلا يكاد يوجد بينهم خلاف في أن أفضل لغة على الإطلاق لتدريس العلوم هي اللغة الأم، وأما تدريسها بغيرها من اللغات الأجنبية فتعترضه تحديات وصعوبات كثيرة تجعل العملية باهظة التكاليف وفي ذات الوقت محدودة النتائج مهما بلغ نجاحه.
وختاما نجدد التأكيد على أن ما يشهده القاصي والداني من إصرار على تهميش اللغة العربية في التعليم والإعلام والاقتصاد والإعلانات التجارية ومزاحمتها بالدارجة حينا وبالفرنسية أحيانا لن نجني منه غير مزيد من الضياع والتخلف وإهدار للزمن التنموي ولما يزخر به بلدنا من طاقات بشرية هائلة.