إذا كان تقسيم البلدان العربية المحيطة بالكيان الصهيوني هدفاً يطول وقت الوصول إليه، فلا أقل من التعجيل بتقسيم مواقف تلك البلدان وتجزئة جبهاتها، بحيث ينفرد العدو بكل طرف في مسار منفرد، ودهاليز خاصة، محجوب بعضها عن بعض بأسوار من الجدار العازل للثقة، والحاجب للبصيرة، ولهذا تكررت مهازل (الصلح المنفرد) فانفردت السياسة المصرية بعد “كامب ديفيد”، ثم انفردت منظمة التحرير للوصول إلى “أوسلو”، وانفردت الأردن لإبرام “وادي عربة”، ثم اشترط الصهاينة على السوريين واللبنانيين أن يدخلوا في مسارات منفردة.
إذا كانت أخلاق وطبائع اليهود معلومة لدينا معشر المسلمين، بما بينه الله -جل في علاه- لنا في كتابه الكريم وأوضحته سيرة سيد المرسلين، فلماذا الهرولة إلى التطبيع وإبرام المواثيق والعقود مع من عُرفوا بنقض وخيانة الأمانة العهود؟
أرجع أحد المتخصصين في هذا المجال وهو الدكتورعبد العزيز كامل ذلك إلى أسباب متعددة منها ما يلي:
– الاستراتيجية اليهودية تقوم على التوسع والسيطرة، بالسلم أو بالحرب، ولما كانت الحرب غير قابلة للاستمرار على الدوام {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} [المائدة: 64]، كان لا بد من صور أخرى لحرب صامتة وساكنة إلى جانب نمط الحرب الصارخة والساخنة، بحيث يظلون في حالة استنفار دائم، يمكِّنهم من إرباك وإنهاك الخصوم، مرة بالقتال في الساحات، ومرات بالمراوغة وإضاعة الأوقات في المباحثات والمفاوضات.
– أن الأفعى اليهودية التي تقضم في غضون كل عقد زمني (منذ حرب 1948م) قضمة من أراضي المسلمين، تحتاج إلى هضمها بعد قضمها، في فترة من الهدنة أو (الاستراحة) التي تكفي لارتخاء القبضة، وترهل القوة عند (الأغيار) وما يسمح بوقت كافٍ للتجهيز لمرحلة جديدة، يفاجئون بها المسلمين والعرب من جديد، ويقلبون في وجوههم طاولات المفاوضات -كما حدث عام 2000م- وينكثون ما سبق أن أبرموا من عهود وعقود: {أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 100] .
– نظرية (الحدود الآمنة) التي طرحها (شيمون بيريز) الزعيم الصهيوني المبشر بالسلام النووي، في خطته “السلمية” التي عرفت بـ (الشرق أوسطية) تتلخص فكرتها في ضرورة صهر شعوب المنطقة في هوية جديدة، هي الانتماء إلى الشرق الأوسط بدلاً من الإسلام أو العروبة، فلا يكون الانتماء فيها للديانة أو العرق بل للمنطقة، حتى يصبح اليهود جزء من نسيجها الظاهر، مع احتفاظهم الباطن بكل خصوصياتهم، وحرصهم في الوقت نفسه على تمييع خصوصيات من حولهم، حيث يكون هذا التمييع هو جوهر التطبيع.
– إذا كانت الحروب الساخنة هي أقصر الطرق للسيطرة على الأرض؛ فإن الحروب الساكنة هي أضمن الطرق للهيمنة والاستحواذ على ما فوق هذه الأرض، والتطبيع -على النمط الصهيوني- هو الوسيلة المثلى في ذلك؛ لأنه يقرِّب من القدرة على الاختراق في الجوانب السياسية والاقتصادية والثقافية والتعليمية والإعلامية والأمنية.
– اليهود رغم شدة بطشهم عند القدرة، هم قوم جبناء، يسكنهم الرعب الدائم والذعر المزمن الذي ينتاب السرَّاق والمجرمين المطاردين، والتطبيع هو طريقهم الوحيد للتخلص من هذا الكابوس، عندما يوقِّع لهم زعماء المنطقة تباعاً أنهم لن يحاربوهم وإنما سيحاربون من يحاربهم، ولهذا فإن البنود الأمنية هي أهم بنود كل الاتفاقيات السابقة للتطبيع، وأهم موضوعات المفاوضة والمقايضة في السنوات الأخيرة حتى كادت القضية كلها أن تكون قضية أمنية، لا تتباحث بشأنها إلا أجهزة المخابرات.
– مجموعة المفاهيم الإسلامية التي تدفع إلى استمرار روح المدافعة لدى العرب والمسلمين، مثل حب الجهاد والرغبة في الاستشهاد، وافتداء الدين والأرض والعرض بالمال والأنفس، كل ذلك يؤرق أحلام اليهود، ولا بديل عندهم من محاولة خلخلة تلك المفاهيم، مع السعي لإزالة ما ترسخ في الوجدان العربي والإسلامي من اعتبار اليهود أشد الأعداء، الذين يهددون أقدس المقدسات ويتجاوزون كل المحرمات.
– والعدو دائماً يحتاج إلى آلية، لتوظيف قطار المنافقين بين صفوف المسلمين، واستثمار نشاط المفسدين والجواسيس والخونة، على أيدي عناصر الاختراق التابعة له أو المتعاونة معه، ولا آلية أنسب لذلك من التطبيع.
– وإذا كان تقسيم البلدان العربية المحيطة بالكيان الصهيوني هدفاً يطول وقت الوصول إليه، فلا أقل من التعجيل بتقسيم مواقف تلك البلدان وتجزئة جبهاتها، بحيث ينفرد العدو بكل طرف في مسار منفرد، ودهاليز خاصة، محجوب بعضها عن بعض بأسوار من الجدار العازل للثقة، والحاجب للبصيرة، ولهذا تكررت مهازل (الصلح المنفرد) فانفردت السياسة المصرية بعد “كامب ديفيد”، ثم انفردت منظمة التحرير للوصول إلى “أوسلو”، وانفردت الأردن لإبرام “وادي عربة”، ثم اشترط الصهاينة على السوريين واللبنانيين أن يدخلوا في مسارات منفردة.
– ولعل من أخطر أهداف التطبيع -إضافة إلى ما سبق- حرص اليهود على إلجاء العناصر الفاعلة في الأمة -جمعيات، حركات، منظمات- إلى التسليم بالعجز، والاقتناع بالانصراف إلى معارك أخرى غير المعركة الكبرى، التي شرع الجميع -إلا من رحم الله- يتسللون منها لِواذاً.
لكل هذا وغيره كان التنويع بين الحرب والتطبيع لدى اليهود حلماً فخاطراً فاحتمالاً، ثم أضحى حقيقة لا خيالاً، وقد تنوعت أشكال هذا التطبيع، وتعددت من ثَمَّ مخاطره، وأخذت ألواناً سياسية ودبلوماسية واقتصادية وثقافية وتعليمية وإعلامية وأيضاً.. أمنية.