أثرت الحماية القنصلية المفروضة على المغرب من طرف فرنسا وإسبانيا وباقي دول الاحتلال الأوروبي، على مجالات تطبيق الشريعة خاصة في الشق القضائي الشرعي، والشق الاقتصادي المرتبط بنظام الزكوات، وذلك بتدمير استعماري متعمد لهذه المرجعيات الراسخة في القضاء والاقتصاد المغربيين. إذ كانت الحماية القنصيلة تطمح للقضاء على هوية المغاربة وكل مظاهر تدينهم لتجعلهم فريسة سهلة المنال للمستعمر الفرنسي والإسباني.
لقد كانت الحماية القنصلية بالمغرب سياسة خطت بإتقان في أندية أوربا السياسية لنشر الفوضى في المغرب وتوهين قواه استعدادا لاحتلاله ولهذا عهد إلى الوزراء المفوضين بطنجة والقناصل في سائر المراسي بتنفيذها، كما أن هؤلاء خلطوا سياسة دولهم بمصالحهم الشخصية، فطفقوا يتاجرون في الحماية القنصلية ويبيعونها جهارا نهارا كما تباع أي سلعة في السوق ونفس الشيء فعله التجار الأوربيون بموجب الحق الذي صار لهم بمنح الحماية القنصلية فعمدوا إلى فتح متاجر وهمية بكل ميناء من موانئ المغرب يبيعون من خلالها بضاعة الحماية التي تدر أرباحا دون تعب أكثر بكثير من أرباح ماكينة تورد أو جلدة تصدر.
وأمام عجز الولاة المغاربة عن إنصاف المظلومين من سياسة الحماية القنصلية، حيث استطال المحميون على الناس وأمعنوا في إهانتهم وسلب أموالهم والاحتيال عليهم دون أن تطالهم يد القضاء المغربي فإنه لم يكن أمام المظلومين من هذه الحماية إلا أن يطلبوها بدورهم.
لقد صار المغرب في هذا الوضع مشلول اليد أمام ظاهرة الحماية القنصلية والتي كانت لها آثار وخيمة على ممتلكات الناس وحقوقهم وهو ما سنوضحه كالتالي:
لقد رخصت المادة الخامسة من الاتفاقية التجارية المبرمة سنة 1861 بين المغرب وإسبانيا للرعايا الإسبان أن يشتروا في المغرب بموافقة ولاته عقارات ويتصرفوا فيها تصرفا مطلقا بعد الشراء.
وبحكم هذه المادة صار للأجانب من كل الأجناس الحق في تملك العقار بالمغرب لأن جميع ما يعترف به لدولة من الدول من امتياز يستفيد منه سائرها. لقد كان الواحد منهم لا يكاد يحصل على رسم تملك حتى تمتد عينه ثم يده إلى ما يجاور ملكه الجديد من أملاك الناس ويدخل مع جيرانه بسبب طمعه في معركة من الخصام والاحتكام يخرج منها في الغالب منتصرا ويخرجون منها في الأكثر منهزمين، سيما إذا كانت الأرض التي يختصمون عليها من أملاك الدولة أو أملاك الأوقاف أو من الأملاك الجماعية كأملاك القبائل وأملاك الكيش، بل وحتى الأملاك الخاصة الثابتة برسومها لمغاربة أحياء حاضرين لم يكن أصحابها ليسلموا من غبن يقع عليهم وظلم يلحق بهم ساعة الاختصام بسبب وقوف القناصل وراء رعاياهم ومحمييهم وأيضا بسبب ضعف التوثيق فيما يخص الرسوم العقارية وشدة الخلل في تسجيلها.
لم تكن العقارات حين تباع تقاس طولا أو عرضا وينص على عدد ما في مساحتها من هكتار وآر وسنتيار، ولم تكن تثبت في أطرافها معالم محكمة بمعرفة المهندس، بل كان المتبايعان يحضران شاهدين يشهدان أن الواحد باع للآخر أرضا يحدها من الشرق بلاد فلان ومن الغرب عزيب فلان إلخ..
وهذا التحديد والقياس كما نرى تقريبي لا يعطي صورة قطعية عن مساحة العقار المشترى ويجعله عرضة للاختلاف بشأنه والتنازع على حدوده، ومن هذا الضعف التوثيقي والخلل الوصفي التسجيلي كان الأجانب ومحميوهم ينطلقون للتطاول على أملاك الناس العقارية مع عجز المغاربة عن البرهنة على ملكيتهم لأراضيهم لأن الواحد منهم لا يملك رسم الملكية وعقد الإراثة وإذا كانت الملكية ثابتة ثبوتا صحيحا بعقد واضح لم يعدم للأجنبي أو المحمي حيلة للاستيلاء على أرضه وهي رشوة الشهود والقاضي نفسه وأشخاص ذوي ديانة ومروءة يعملون له بينة مستفيضة مبينة على العشرة وطول المخالطة يثبتون بها دعوى الأجنبي أو المحمي وينفون بها دعوى المغربي.
كل هذا والسفير يواصل مساعيه والقنصل يوالي توسطاته المشوبة بالتهديد بإحضار الأسطول. وبهذا الأسلوب تمكن الأجانب ومحميوهم من الاستيلاء بالباطل على أراض شاسعة وتحويل ملاكها الأصليين إلى زراع لحبوبهم ورعاة لمواشيهم.
ولم يتوقف ضرر الحماية القنصلية على العقار بل تعداه إلى القضاء ذلك أنه كما سبق ذكره فقد حصلت الدول الأوربية على حق إنشاء محاكم قنصلية أو مشتركة واستثني رعاياها أو محميوها من سريان حكم الدولة المغربية عليهم. وبهذا ظهر في الجهاز القضائي اختلال اتسع خرقه مع الزمان حتى كاد يعطله بالمرة بعد أن ذهب ذلك الاستثناء بهيبة الدولة وجرأ الأجانب والمحميين عليها، فإذا تشاجر محميان في قارعة الطريق وتعرض من جراء هذا الخصام أملاك الناس وأنفسهم للأذى فإن السلطة المغربية لا يمكنها التدخل إلا بعد استئذان القنصل، وفي هذه الحالة تصير تأتمر بأمر القنصل وتنتهي بنهيهم. وإذا كان الخصام بين أجنبي أو محمي وغير محمي فإن القضية تحكم لصالح الأجنبي أو المحمي خوفا من قنصليته، وبذلك ساهمت القنصليات في خلق فوضى قضائية استظل المجرمون بها لارتكاب جميع أنواع الجريمة من غصب متاع الناس وهتك أعراضهم وتهديد أمنهم.
وبذلك تكون الحماية القنصلية قد ذهبت بهيبة الدولة وقللت من موارد الخزينة وأحدثت انقساما وشرخا عميقا في المجتمع المغربي وشلت قدراته.