بعد محاولات العراب الأمريكي الحثيثة لجر الأنظمة العربية إلى أحضان الشمطاء الصهيونية، مطبعين مسالمين، ترغيبا وترهيبا، فكان اتفاق أبراهام المشؤوم، الذي وقعت بموجبه مجموعة من الدول العربية على اتفاق التطبيع مع الكيان الصهيوني، هذا التطبيع الذي يعتبر لبنة وحجر أساس في مخطط الشرق الأوسط الجديد، وإقبارا للقضية الفلسطينية دون عزاء ولا تأبين.
فبدأ النسيان يتسلل إلى العقل الجمعي العربي والإسلامي للقضية الأولى للأمة، قضية تحرير الأقصى، مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأولى القبلتين، والاطمئنان يعلو الإحساس الغربي الداعم للصهيونية العالمية، حتى إن العراب الأمريكي كان يعلن بين الفينة والأخرى اقتراب دخول المملكة العربية السعودية في مخطط التطبيع، وفي الأمتار الأخيرة للتتويج حاسم لمخطط جر الدول العربية والإسلامية جرا إلى توقيع اتفاقيات لتطبيع مع الكيان الصهيوني المحتل.
هذا التطبيع الذي كانت المفاوضات السرية تتم فيه بشكل فردي مع كل دولة على حدة وبرعاية أمريكية، وبمنطق “الأخذ والعطاء”، القطري، بمعزل عن القضية الأساس في هذا الصراع، مغفلين حقوق الشعب الفلسطيني والأراضي المحتلة، فكانت الإدارة الأمريكية تقدم لكل دولة ما يهمها مقابل توقيع صك التطبيع مع الصهاينة، وهو ما تم بالفعل مع الإمارات، والبحرين، ومصر كتحصيل حاصل، والسودان، والمغرب، وهو ما كان في مراحله الأخيرة مع المملكة العربية السعودية.
رافق ذلك وصول الصهاينة المتطرفين للحكم ببرنامج حكومي يدعمه نتنياهو لتهويد القدس وهدم المسجد الأقصى لبناء الهيكل المزعوم، وكذا توطين أكثر من مليوني مستوطن في الضفة الغربية، عبر احتلال واجتزاء وابتلاع المزيد من الأراضي الفلسطينية، بتهجير الآلاف، ولتحقيق ذلك قام المتطرفون بتأسيس ميليشيات مسلحة من المستوطنين في الضفة الغربية مثل ميليشيات “فتيان التلال” وغيرهم، بقيادة وزير المالية بتسلئيل سموتريش، وميليشيات أخرى تحت اسم “الحرس الوطني” أسسها وزير الأمن الداخلي إيتمار بن غفير، وذلك من أجل طرد فلسطينيي شرق القدس من بيوتهم والسيطرة عليها بالكامل، كما فعل أسلافهم من عصابات “هاجاناه” و”إرجون” وغيرها، كل هذا بدعم غربي، وتحت مظلة أمريكية، لتصفية القضية الفلسطينية.
وفي ظل هذا الارتماء من الدول العربية في أحضان الشمطاء الصهيونية، مطبعين، مسالمين، ومهادنين، متغافلين القضية الأساس، ونقطة الخلاف والصراع، التي ظلت دون حلحلة منذ توقيع اتفاق أوسلو المشؤوم، وفي ظل التغول الصهيوني، وعتاة متطرفيه وعلى رأسهم “نتانياهو” و”بتسلئيل سموتريتش”، و”إيتامار بن غفير” و..، وما يعانيه فلسطينيو الضفة الغربية، وفلسطينيو الداخل طوال سنة ونصف من القتل والاعتقال والاقتحامات للمسجد الأقصى والمنع من دخوله للمسلمين؛ جاءت عملية “طوفان الأقصى”.
هذه العملية التي اعتبرها المحللون العسكريون والسياسيون والمدنيون، عملية معقدة في تكتيكها، مفاجأة مدوية في تنفيذها، غير مسبوقة في عمقها الاستراتيجي على مدى 75 سنة.
العملية التي كشفت زيف شعار “الجيش الذي لا يقهر”، وأدرعه العسكرية والأمنية والاستخباراتية، فشل أصاب كل من وكالة المخابرات الداخلية “الشاباك”، والمخابرات العسكرية الصهيونية و”الموساد”، وأظهر خيبتهم في الكشف عن هذه العملية تخطيطا، وتدريبا، وإمدادا، مع اتساع نطاقها والذي شمل البر والبحر والجو.
هذا الفشل لحق حتى المخابرات المصرية المتعاونة مع الصهاينة، والتي تمتلك بدورها شبكات استخباراتية بشرية في قطاع غزة، لم تفهم ما يدبر وما كان يجري التخطيط له بالضبط، لأنها قامت بإبلاغ الحكومة الصهيونية، حسبما كشفت وسائل إعلامية داخلية، بأن هناك عملية من نوع ما كانت وشيكة، لكن تم تجاهلها.
وبهذه العملية الجريئة استطاعت حماس وباقي فصائل المقاومة، أن تخلط الأوراق، وتبعثر الحسابات، التي كانت تحاك في الظلام، معلنة أنه لا يمكن تجاوز الفلسطينيين في أي محاولة لتصفية قضيتهم، كما برزت حماس كند للتغول الصهيوني في الضفة الغربية، مدافعة عن أي مساس بالمقدسات، ومتصدية لبربرية ميلشيات الصهاينة من المستوطنين بالضفة الغربية.
كما أن هذه العملية جعلت المطبعين مع الكيان الصهيوني في حرج، في ظل الغليان الشعبي الذي خرج مناصرة لشعب فلسطين المقهور، وبذلك تكون حماس قد نجحت إلى حد ما بوضع العصا في عجلة مسار التطبيع، أو على الأقل جعل القضية الفلسطينية مركزية في أي مفاوضات للتطبيع.
نقول ومع هذه الهبة الشعبية العالمية، أن حماس وفصائل المقاومة نجحوا في دفع عدد من الأطراف لإعادة حساباتها، واتخاذ مسافة للتفكير مليا في الوضع، كما أن هذه الرجة زعزعت الكيان الصهيوني، وصدعت أركانه، وستكون حسب الكثير من المتتبعين والمحللين تداعيات داخل الكيان المحتل نفسه وفي منطقة الشرق الأوسط، وهذا ما يفسر تكالب عدد من زعماء الغرب لتقديم الولاء للصهاينة، وبكائياتهم، ليس ذلك حبا في الصهاينة بل خوفا على مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي هو أكبر من دولة “إسرائيل”، وهنا يمكن أن نذكر الموقف القوي للأمين العام للأمم المتحدة غوتيرش في جلسة لمجلس الأمن، حيث أكد أن ما يحدث ليس من فراغ بل ناتج عن خمسين عاما من معاناة للشعب الفلسطيني، هذا الموقف جعل وزير خارجية الكيان الصهيوني “إيلي كوهين” يلغي لقاء خاصا كان سيجمعه مع غوتيريش، وما تزال المعركة في غزة فلسطين في بدايتها ومفتوحة على احتمالات عديدة، و”لله الأمر من قبل ومن بعد“.