ماذا قال القرآن الكريم عن السنة (6): دلالة القرآن على أن طاعته صلى الله عليه وسلم من لوازم الإيمان  -تابع- نور الدين درواش

 

توقفنا في الحلقتين السابقتين مع قوله تعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [النساء:65].

ووقفنا على معناها وسبب نزولها وعمومها لتشمل أحكام النبي صلى الله عليه وسلم في زمانه والتحاكم لسنته بعد وفاته، ووقفنا على نماذج من استدلال علماء الأصول بها على أن السنة النبوية شرعة شرعية… ونستمر في عرض الآيات المندرجة تحت هذا المبحث.

الآية الثانية:

قوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً) [النساء: 61].

هذه الآية من أقوى الآيات دلالة على وجوب التحاكم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلى ضرورة تحكيم سنته، وأن المعرض عن ذلك معدود من المنافقين ولا شك أن في هذا تهديد ووعيد لكل من يضعف حجية سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

قال شيخ الإسلام ابن تيمبة: “فبين سبحانه أن من دعي إلى التحاكم إلى كتاب الله وإلى رسوله فصد عن رسوله كان منافقا”([1])

قال الإمام ابن القيم في معنى هذه الآية: “فجعل الإعراض عما جاء به الرسول والالتفات إلى غيره هو حقيقة النفاق، كما أن حقيقة الإيمان هو تحكيمه وارتفاع الحرج عن الصدور بحكمه والتسليم لما حكم به رضى واختيار ومحبة فهذا حقيقة الإيمان، وذلك الإعراض حقيقة النفاق …”([2])

وقال العلامة محمد الأمين الشنقيطي: “فدلت هذه الآية الكريمة أن من دعي إلى العمل بالقرآن والسنة وصد عن ذلك، أنه من جملة المنافقين؛ لأن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب”([3])

وقد شنع العلامة ابن حزم  رحمه الله على كل من قدم رأي عالم أو قياسا على كلام الله وكلام رسوله بعبارة شديدة تنم عن تعظيمه لنصوص الوحيين كتابا وسنة فقال رحمه الله تعليقا على هذه الآية: “فليتق الله الذي إليه المعاد امرؤ على نفسه، ولتوجل نفسه عند قراءة هذه الآية وليشتد إشفاقه من أن يكون مختارا للدخول تحت هذه الصفة المذكورة المذمومة الموبقة الموجبة للنار فإن من ناظر خصمه في مسألة من مسألة الديانة وأحكامها التي أمرنا بالتفقه فيها فدعاه خصمه إلى ما أنزل الله تعالى وإلى كلام الرسول؛ فصده عنهما ودعاه إلى قياس أو إلى قول فلان وفلان فليعلم أن الله عز وجل قد سماه منافقا نعوذ بالله من هذه المنزلة المهلكة فالتوبة التوبة عباد الله قبل حلول الأجل وانقطاع المهل”([4]).

وقال العلامة أبو الأشبال أحمد شاكر رحمه الله تعالى: “فقد أمرنا الله باتباع نبيه، وجعل طاعته والرضا بحكمه شرطاً في صحة الإيمان به، فما جاء من سنّته فيما فيه نصّ كتاب فهو بيان للكتاب، بيان لعامّه وخاصّه، وناسخه ومنسوخه، ونحو ذلك. وما سنّ رسول الله فيما ليس لله فيه حكم فبحكم الله سنّه. وكذلك أخبرنا الله في قوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ  صِرَاطِ اللَّهِ}  وقد سنّ رسول الله مع كتاب الله، وسنّ فيما ليس فيه بعينه نصّ كتاب. وكل ما سنّ فقد ألزمنا الله اتباعه، وجعل في اتباعه طاعته، وفي العُنود عن اتباعها معصيتَه التي لم يَعذِر بها خلقاً، ولم يجعل له من اتباع سنن رسول الله مخرجاً، لما وصفت، وما قال رسول الله. أخبرنا سفيان عن سالم أبو النضر مولى عمر بن عبيد الله سمع عبيد الله بن أبي رافع يحدّث عن أبيه أن رسول الله قال: «لا أُلفينّ أحدَكم متّكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري، مما أمرتُ به أو نهيتُ عنه فيقول:لا أردي، ما وجدنا في كتاب الله اتّبعناه».

وقال الشافعي أيضاً: (فيما وصفتُ من فرض الله على الناس اتّباع أمر رسول الله دليل على أن سنة رسول الله إنما قُبِلت عن الله، فمن اتّبعها فبكتاب الله تبعها، ولا نجد خبراً ألزمه الله خلقه نصّاً بيّناً إلا كتابه ثم سنة نبيه، فإذا كانت السنة كما وصفتُ، لا شبه لها من قول خلقٍ من خلق الله، لم يجز أن ينسخها إلا مثلُها، ولا مثل لها غير سنة رسول الله، لأن الله لم يجعل لآدميّ بعده ما جعل له، بل فرض على خلقه اتباعه، فألزمهم أمره، فالخلق كلهم له تَبَع، ولا يكون للتابع أن يخالف ما فُرض عليه اتّباعُه، ومن وجب عليه اتباع سنة رسول الله لم يكن له خلافُها، ولم يقم مقام أن ينسخ شيئاً منها).

فلا عذر لأحد يعلم حديثاً صحيحاً أن يُخالفه، لا تقليداً ولا اجتهاداً، ولا استحساناً ولا استنباطاً، كما قال الشافعيّ -وهو ناصر الحديث حقّاً-: (لا يجوز لأحد علمه من المسلمين -عندي- أن يتركه إلا ناسياً أو ساهياً). وكما قال أيضاً: (وأما أن نخالف حديثاً عن رسول الله ثابتاً عنه-: فأرجو أن لا يؤخذ ذلك علينا إن شاء الله. وليس ذلك لأحد، ولكن قد يجهل الرجل السنة فيكون له قولٌ يخالفها، لا أنه عَمَد خلافَها، وقد يغفل المرء ويخطئ في التأويل” ([5]) .

يتبع بحول الله

————————————————————–

([1]) – الصارم المسلول ص:37.

([2]) – مختصر الصواعق ص: 546.

([3]) – أضواء البيان (7/512).

([4]) – الإحكام في أصول الأحكام (4/104).

([5]) – مقدمة العلامة أحمد شاكر لشرحه لسنن الترمذي (1/68-70).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *