إن الواقع الفعلي للجمعيات غير الحكومية والتطوعية التي هي عماد “المجتمع المدني” يُبَيِّن أنها تُمَوَّل من الخارج، وأن دور معظمها ليس إلا كالمجهر الذي يكشف كل ما تحته من أحوال المجتمع وظروفه الاجتماعية والاقتصادية السياسية، وأن مثقفي “المجتمع المدني” يلهثون وراء هذا التمويل ويقدمون لمموليهم التقارير التي يطلبونها، وأن الهدف النهائي لهذه العملية هو خدمة مصالح الشركات متعددة الجنسيات وتدعيم عمليات التطبيع مع الكيان الصهيوني.
الجميع تحت المجهر ولا أحد خارجه هذا هو التعبير الذي استخدمته سناء المصري الباحثة ذات الباع الطويل والخبرة الدقيقة في العمل مع المنظمات غير الحكومية، والنسائية منها على وجه الخصوص.
ولما اختلفت مع رفيقاتها على مسألة التمويل، كشفت لنا هذا الحجاب الذي كان مضروباً على ما يجري داخل هذه الجمعيات (سناء المصري، تمويل وتطبيع، قصة الجمعيات غير الحكومية).
دفعت هيئة المعونة الأمريكية عام 1991م مبلغ عشرين مليون دولار لدعم هذه الجمعيات والمنظمات، وكانت قد تبنت قبلها مشروعاً ثلاثي المراحل بدأ من عام 1987م وحتى عام 1990م بحجم تمويل قدره خمسة وعشرون مليون دولار لدعم المنظمات العاملة في مجال التنمية المحلية استفادت منه 2019 جمعية أهلية، وكذلك فعلت هيئة المعونة الكندية والاتحاد الأوروبي وغيره من الجهات الدولية.
حددت سناء المصري ما يقرب من عشرين منظمة دولية بعضها يتبع الحكومات مباشرة ويتبع بعضها الآخر الأحزاب الحاكمة، أشهرها منظمة “فورد” وغيرها من المنظمات ذات السمعة العالمية في زعزعة بنية بلدان العالم الثالث وتهيئتها لما يسمى بالنظام العالمي الجديد أو السطوة الأمريكية الجديدة، ومن المنظمات الممولة للجمعيات الأهلية: “سيدا” الكندية، و”سيدا” السويدية، و”دانيدا” الدانماركية، و”فينيدا” الفنلندية، والمعونة الأسترالية، ومؤسسة “إسرائيل الجديدة” في نيويورك؛ هذا إلى جانب المنظمات والحكومات الأخرى مثل ألمانيا واليابان.
وتعمل الجمعيات الأهلية في مجالات: حقوق الإنسان، ورفع الوعي القانوني لبناء الديمقراطية، ومراقبة الانتخابات، وفي المجال العمالي والنقابي والسينما والمسرح.
والهدف الأساس الذي يسعى إليه نشطاء هذه الجمعيات هو أن يكون العمل العام والتطوعي سبيلاً لتحقيق الثراء والصعود الاجتماعي والإحساس بالغنى والتعالي والنجومية الشخصية وحيازة السيارات والشقق الفاخرة، واغتنام فرص السفر للخارج والإقامة في فنادق خمس النجوم؛ خاصة أن الممولين يدفعون رواتب ويقدمون منحاً هائلة تصل إلى ألوف الدولارات؛ وسرعان ما يتجه بعضهم إلى تكوين جمعيات جديدة بمجرد أن يدرك سهولة التمويل؛ حيث يكفيه أن يطلب سجل الممولين فتنهمر عليه أوراق التعريف بهم، وطرق الاتصال بل وكيفية التعاون معهم؛ بالإضافة إلى الإرشادات الكثيرة للحصول على التمويل.
والتمويل هو العصا السحرية التي اخترقت تقوقعات شلل المثقفين وعاطلي السياسة، وهي التي حولت الكثيرين ممن كانوا يقفون في صفوف المعارضة من شيوعيين أو يساريين أو علمانيين عموماً، وكانت دعايتهم تدور حول الوطن والاستقلال والعدالة الاجتماعية، وتهاجم الكيان الصهيوني والرأسمالية والامبريالية والتدخل الأجنبي والفوارق الطبقية، حولتهم إلى نشطين مخلصين يدافعون عن العولمة والتطبيع مع الكيان الصهيوني.
إن بضعة آلاف من الدولارات حوَّلتهم إلى خبراء كرَّسوا جهودهم لخدمة المؤسسات الرأسمالية الضخمة عابرة القارات ومتعددة الجنسيات ولخدمة جهود التطبيع مع الكيان الصهيوني على حد قول (سناء المصري).
وبالتمويل تقدم هذه الجمعيات تقارير سياسية وأخباراً إلى الخارج عبر أجهزة الفاكس، ولهذا يسميها بعضٌ بـ(منظمات الفاكس والطيران).
وبالتمويل تُؤَسس المراكز العمالية والقانونية في مناطق العمال لدراسة الحالة الراهنة للطبقة العاملة، وتراقب الجمعيات أنشطة العمال وانتخاباتهم ونقاباتهم وقوانينهم، ونواياهم السرية والعلنية، وتعمل على تفتيت الاتحاد العام وإنشاء النقابات الموازية.
وبالتمويل ترفع جمعياتٌ شعار الوحدة الوطنية في الوقت الذي تسارع فيه إلى تضخيم الأحداث، وتطلب حماية الأقليات المضطهدة بعد أن تكون قد جذَّرت روح التعصب والنزاعات الطائفية إلى حد تكوين ميليشيات محلية، فتسقط البلاد في الحرب الأهلية والمذابح الجماعية كما حدث في بعض البلدان.
وبالتمويل تتفرغ جمعياتٌ لشؤون المرأة وتعزف على وتر الأحوال الشخصية وختان الإناث في خطب متكررة ومؤتمرات متتالية بالداخل والخارج.
وبالتمويل تقوم جمعياتٌ بدور المرابي القديم فتقدم للفقراء قروضاً لا تحل لهم مشاكلهم المادية بقدر ما تضاعف ديونهم وتثقل كاهلهم بمشاكل إضافية ونسبة فوائد تصل إلى 18%، 19% من أصل القرض.
وبالتمويل تصور جمعياتٌ آلاف أفلام الفيديو عن كل شيء في البلاد وترسل إلى الخارج بحجة عمل المونتاج لها، ولا تعود مرة أخرى.
وبالتمويل أمكن تجنيد الأكاديميين والأساتذة والباحثين وضم بعضهم إلى مؤسسات استشارية دولية كانت مهمة بعضها إعادة الهيكلة الاقتصادية للبلاد كمؤسسة (كيمونكس أوف واشنطن) التي يعتبر (جيرالدمار) أكبر مساهميها الذي قال يوماً: (كنت أريد من بين أمور أخرى العثور على سبيل يمكنني من تأسيس وكالة مخابرات مركزية خاصة بي).
وهكذا تفشى مرض التمويل، فأصبحت التقارير تصب مباشرة في المؤسسات الدولية مهما اختلفت مسمياتها لتغطي كافة المجالات من حقوق الإنسان إلى الصحة والمرأة، والأقليات والنقابات؛ وبهذا تمكنت الجهات الأجنبية عن طريق هذه الجمعيات من اختراق البلاد.
الهدف إذن هو الاختراق المعرفي الذي تظل مفاتيحه في أيدٍ غير معلومة في الخارج، وبالتراكم المعرفي يتكون لدى هذه الجمعيات صمام أمن مباشر لتفريغ البلاد من احتمالات الثورات والتمردات الشعبية ثم العمل على إدماج البلاد في السوق الرأسمالي وإخضاعها للإرادة الكاملة للشركات الرأسمالية.
تحدثت (سناء المصري) بجرأة ملفتة للنظر عن مثلث (الجمعيات الأهلية الحكومة الممول الأجنبي) وعن العلاقة بين أطراف هذا المثلث؛ إذ تشكل هذه العلاقة لُعْبة متعددة المستويات داخلياً وخارجياً يلعبها الجميع بوضوح ومكاشفة مع محاولة كل طرف انتزاع أقصى ما يمكن من الأطراف الأخرى.
وينغمس النشطاء المحليون في شباك العلاقات الدولية واستجلاب المال الأجنبي تحت غطاء العمل العام، ويدخلون في سباق تكوين الجمعيات، وبعضهم يخرق القانون وتعلم الحكومة ذلك لكنها كما ترى تتغاضى عن ذلك بمحض إرادتها إرضاء للدول الأجنبية، بل إنها وبذاتها تشكل القنطرة التي يعبر بها المال الأجنبي إلى هذه الجمعيات.
وبوضوح شديد تقول (سناء المصري): إن الحكومة تحرك هذه الجمعيات في قالب مرسوم؛ فإذا خرج النشطاء عن هذا القالب بادرت باستخدام حق الإغلاق والمصادرة أو التضييق عليهم، ومن جهة أخرى فإنها تسعد بتسريح هذا القطيع السياسي الذي كان مقلقاً لها في الماضي القريب لجمع المعونات والمنح من الخارج وإغراقه في تطلعاته للثروة والصعود الاجتماعي، وتلعب الجمعيات في المساحة المرسومة لها، ولا تخرج عن حدودها أبداً؛ بل إنها تمد يدها وتتعاون مع الحكومة في كثير من الأحيان.
وإن استطاعت الجمعيات الإفلات من قبضة الدولة وقعت في يد الحكومات الأجنبية المانحة التي تعرف كيف تقبض على عنق عميلها عن طريق تقسيم المنحة وليس بتقديمها دفعة واحدة، ويعلم الممول الأجنبي أن عملاءه ليسوا شرفاء أو أطهاراً دائماً؛ وكثيراً ما تحدث أزمة ثقة بين الطرفين لكن المانح يغض الطرف عن ذلك؛ فأهدافه تتعدى المساعدة في تنفيذ مشروع بعينه إلى توثيق العلاقة مع الأشخاص القائمين على هذه الجمعيات أو تحقيق أغراض أخرى يعرفها الطرفان ويتواطآن على تنفيذها، علاوة عن أن كل ذلك ليس إلا جزءاً من أبعاد اللعبة التي تحركها كلها خيوط الممول الأجنبي بهيئاته ومخططيه الدوليين الأكاديميين النشطين في الدراسات الاستراتيجية وعملائه في العالم العربي أو ما يسمى بمنطقة الشرق الأوسط.
ليس هذا إلا قليلاً من كثير ولا زال الأمر يحتاج إلى مزيد من الرصد والجهد في الكشف عن هوة (المجتمع المدني)، تلك الهوة التي يسعون إلى إسقاط مجتمعاتنا الإسلامية فيها؛ اعتقاداً منهم أنها السبيل الأمثل لمواجهة المد الإسلامي بحركته وفكره وآثاره بالإضافة إلى استمرار هيمنتهم السياسية والاقتصادية والثقافية وتأكيدها.