التنافس في الطاعات والمسارعة إلى الخيرات خُلُقٌ عظيمٌ، لا يتَّصِفُ به إلا أصحاب الهمة العالية، وقد أمر الله تعالى به في كتابه العزيز، قال الله عز وجل: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} (آل عمران:133)، وقال تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ} (البقرة:148).
قال السعدي: “والأمر بالاستباق إلى الخيرات قدْر زائد على الأمر بفعل الخيرات، فإن الاستباق إليها، يتضمن فعلها، وتكميلها، وإيقاعها على أكمل الأحوال، والمبادرة إليها، ومن سبق في الدنيا إلى الخيرات، فهو السابق في الآخرة إلى الجنات، فالسابقون أعلى الخَلق درجة، والخيرات تشمل جميع الفرائض والنوافل، من صلاة، وصيام، وزكوات، وحج، عمرة، وجهاد، ونفع متعدٍ وقاصر”.
وقد ربَّى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على اغتنام الفرص في المسارعة والحرص على الطاعات والتنافس في الخيرات، فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك) رواه الترمذي وصححه الألباني.
والسيرة النبوية فيها الكثير من المواقف والأمثلة الدالة على مسارعة الصحابة رضوان الله عليهم إلى الطاعات وتنافسهم في والخيرات.. ومن هذه المواقف ذلك الموقف الذي دار بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين بعض فقراء الصحابة.
عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ذهب أهلُ الدُّثورِ (أصحاب الأموال الكثيرة) بالدرجات العُلى والنعيم المقيم، فقال: وما ذاك؟ قالوا: يُصلُّون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلا أعلمكم شيئا تدركون به من سبقكم، وتسبقون به مَنْ بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم، إلا من صنع مثل ما صنعتم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: تسبحون وتكبرون وتحمدون دُبُرَ (عَقِبَ) كل صلاة ثلاثا وثلاثين مرة. قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) رواه مسلم.
قال ابن الجوزي: “وهذا الحديث يتضمن شكوى الفقراء وغِبْطَتُهُم للأغنياء، كيف ينالون الأجر بالصدقة، وهم لا يقدرون، فأخبرهم أنهم يثابون على تسبيحهم وتحميدهم وأفعالهم الخير كما يثاب أولئك على الصدقة”.
وفي رواية أخرى لمسلم عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه: (أنَّ ناسًا من أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! ذهب أهلُ الدُّثورِ بالأجور، يُصلُّون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضولِ أموالهم، قال: أو ليس قد جعل اللهُ لكم ما تصدَّقون؟ إنَّ بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرةٍ صدقة، وكل تحميدةٍ صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمرٌ بالمعروفِ صدقة، ونهيٌ عن منكر صدقة، وفي بُضْعِ أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله! أياتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتُم لو وضعها في حرامٍ أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر).
قال النووي: “قوله صلى الله عليه وسلم: (وفي بُضع أحدكم صدقة): هو بضم الباء، ويطلق على الجماع.. وفي هذا دليل على أن المباحات تصير طاعات بالنيات الصادقات”.
وقال القرطبي: “ومقصود هذا الحديث: أن أعمال الخير إذا حسُنت النيات فيها تنزلت منزلة الصدقات في الأجور، ولا سيما في حق من لا يقدر على الصدقة. ويُفْهَم منه: أن الصدقة في حق القادر عليها أفضل له من سائر الأعمال القاصرة على فاعلها”.
لم يكن قول فقراء الصحابة رضي الله عنهم: (ذهب أهلُ الدُّثورِ بالدرجات العُلى والنعيم المقيم) انطلاقاً من حسدٍ لإخوانهم الأغنياء، أو لرغبة في المال وتطلع إلى الغِنى، ولكن كلامهم خرج مخرج الغِبطة والحرص على فعل الخيرات والطاعات، ليحوزوا المرتبة التي امتاز بها الأغنياء بنفقاتهم وصدقاتهم، ومثل هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلط على هلكته في الحق، ورجلٌ آتاه اللهُ الحكمة فهو يَقضي بها ويُعلمُها) رواه البخاري.
والحسد هنا يعني الغبطة، وليست من الحسد المذموم، وإنما أطلق عليها الحسد مجازاً، قال ابن حجر في فتح الباري: “وأما الحسد المذكور في الحديث فهو الغبطة، وأطلق الحسد عليها مجازا، وهي أن يتمنى أن يكون له مثل ما لغيره من غير أن يزول عنه، والحرص على هذا يسمى منافسة، فكأنه قال في الحديث: لا غبطة أعظم أو أفضل من الغبطة في هذين الأمرين”.