المؤامرات الباطنية… على الدولة الإسلامية   د. طارق الحمودي

 

لم يكن من الصعب ملاحظة نوع من السطحية في تحليلات بعض الباحثين فيما يتعلق بأسباب قيام قانونيي الأندلس وقضاتهم وسياسييهم في وجه فكر الغزالي وما يقاربه، فأقل ما يلاحظ عليها تغييب السياق التاريخي والسياسي للبلد، المحلي والإقليمي، بل والدولي على حد التعبير المعاصر، وسأكتفي هنا بالتنبيه على وجه واحد من هذه السياقات التي اتخذت شكل المؤامرة على وحدة بلاد الأندلس، والتي كانت تسعى إلى إضعافها، ولعل ما يدل على جدية ذلك أن هذه المؤامرات لم تكتف بمحاولة تقسيم بلاد الأندلس إلى دويلات، بل سعت بعد أن حصل ذلك إلى إثارة الفتن في تلك الدويلات نفسها!

من المناظرات المشهورة التي حصلت بين النصارى والمسلمين على المستويات العليا، الرسمية منها والعلمية، مراسلات تمت بين أحد أكبر رهبان فرنسا، وهو رئيس دير كلوني (cluny) وبين الأمير المقتدر بالله من بني هود حاكم سرقسطة، وقد كانت رسالة الراهب رسالة تنصيرية خالصة، وتولى الرد عليها العلامة أبو الوليد الباجي (474هـ)، وهي رسالتان حفظت نسخهما المخطوطة في دير الإسكوريال بضواحي مدينة مدريد، وتولى بعض المستشرقين إخارجهما للنور دراسة وتحقيقا، وأعاد الدكتور محمد عبد الله الشرقاوي إخراجهما سنة 1406 هـ 1986 م مع مقدمة مهمة عن الرسالتين ومضمونهما، مناقشا من سبقه من المستشرقين فيما صنعوه في دراسات لهم متعلقة بالرسالتين، ثم نشرها مع دراسة مفيدة عبد المجيد تركي ثم نشرها مرة أخرى محمود خياري في مجلة التبيين الجزائرية، ولم أستطع الوقوف على دراسات أولئك المستشرقين، لكنني استطعت أن أقف على كتابات عن هذا الراهب وعن ديره وعن شيء كتبه أحد الدارسين الغربيين عن الرسالتين أعانني على إعادة تصور الحالة الفكرية والسياسية للمناظرة غير المباشرة التي قامت بين راهب فرنسا الكبير وأبي الوليد الباجي على لسان أمير سرقسطة.

لم يخف عبد المجيد التركي نوعا من التردد في تصحيح نسبة نص رسالة الراهب إليه، لما أنتجه النقد الداخلي في سياق مقتضيات موضوعية، وتابعه على ذلك منصر إسباني شاب الأصل اسمه ديغو ساريو كوكاريا (Diego Sarrió Cucarella) منصر باحث بقسم الإلهيات بجامعة جورج تاون بواشنطن.

أعلن الراهب قصده من الرسالة وهي دعوة الأمير إلى النصرانية مع نوع من التزيين والتشجيع بقوله: «ومتى قبلت دعوتنا ….لم نتوقف عن الالتحاق بك»، ووصف الملك بأنه متورط إلى الآن في حبائل الشيطان، ثم أظهر له الدعاء بالنجاة من ذلك، بل وصل به الأمر إلى أن يعرض عليه النفاق والتقية مع المسلمين بعدم إظهار تنصره، بأن يسر بذلك من يبعثهم الراهب مع حرص على وصف الدنيا وتحقيرها والتنفير منها.

أريد التنبيه هنا على طريقة بعض ملوك الغرب في الكيد والمكر لإسقاط الدولة الإسلامية، فهي مترددة بين استمالة الملوك، وبين استثارة الشعب عليه كما حصل حينما راسل الملك الفرنسي لويس الأول سكان مدينة ماردة الذين أبدوا استعدادا للخروج على الخليفة عبد الرحمن الثاني بن الحكم في قرطبة سنة 826م تحت دعوى سوء المعاملة، وقد عرض المساعدة العسكرية، وهذا أمر قد يفسر الشدة في بعض المراسلات الملكية من جهة الأمراء الأندلسيين.

لابد أن هذه الطريقة استمرت، ولابد أنها لا تزال مستعملة، وهذا أمر يستدعي الانتباه جدا، فخطورة الفكر الباطني تكمن عمليا في أنه يكمن للثورة وحمل السلاح وإرهاب المسلمين.

يذكر ابن العربي الحاتمي أنه نزل على بعض مجتمعات عباد الشمس في بلاد يونان، والذين يسميهم ابن العربي الحاتمي “الشمسية“، فمن هم هؤلاء الشمسية؟ وما الذي كان يفعله ابن العربي الحاتمي في بلاد يونان؟ وما الذي يعنيه هذا التقارب بين التصوف والوثنية الصابئية؟

قد يكون لهذا تفسير فكري له شواهده، وقد يكون بوابة إلى الكشف عن أبعاد أكثر عمقا لفلسفة وحدة الأديان التي كان يدعوا إليها ابن العربي الحاتمي، لكن الذي أخشاه أن يكون ذلك مطية لأمور أخرى تتعلق بالأمن القومي الأندلسي، فعبادة الشمس طريقة مصرية بابلية يونانية هرمسية الأصل، والشمس من أهم رموز الفكر الماسوني في أصوله الأولى وامتداداته، والشمس أيضا أحد عناصر الفكر المتصوف المعروفة كما تجده عند ابن العربي الحاتمي في فتوحاته، ويخطر عندي سؤال هنا لست أعرف لسبب خطوره تفسيرا مقنعا، هل كان ابن العربي الحاتمي وفيا لفلسفته أم للمسلمين؟

ثم طريقة أخرى يستعملها المتآمرون على بلاد الإسلام، تنال بعض أفراده في حالات خاصة، اشتهر بها الحشاشون الإسماعيلية، يسميها المتخصصون اليوم غسيل الدماغ، «وإذا ما تم استخدام هذا الأسلوب من قبل أفراد أو جماعات ضالة أو منحرفة أو جهات معادية لوطنه أو مجتمعه، فإنه يصبح على استعداد أن يكتسب عقائد مخالفة لبيئته وتقاليده، بل وحتى أن يصبح عدوا لوطنه وأهله وذويه»، فيصير أداة طيعة في يد جهات متربصة، يقصد بها بعد تلقينها إفساد عقائد الأمة، وإحداث الخلل الفكري فيها بإضعاف الانتماء وتذويب الهوية في حوامض المؤامرة، «ويصف بعض المحللين الشخص هنا بأنه يموت ثم يولد من جديد في الصورة المحددة له، وتتحطم هويته القديمة…» ، ألا يذكر هذا بشيء كنت نبهت عليه سابقا؟ وقريب من هذا استعمال السحر في سلب إرادة بعض القادة السياسيين أو توجيههم إلى ما يكون له فيه اختيار.

دولة الفلاسفة

اشتهر عن الفلاسفة تنظيرهم لمدينة كاملة فاضلة، وهي الموسومة باليوتوبيا في الثقافة الغربية، وقد تسربت هذه الفكرة إلى فلاسفة الحضارة الإسلامية، ومن أشهر من نسب إلى ذلك منهم أبو نصر الفارابي، ولعل أغرب التنظيرات الفلسفية تلك المنسوبة إلى الفيلسوف الأندلسي ابن باجة، فقد كتب “تدبير المتوحد” لشرح حال الفيلسوف أو الفلاسفة في المدينة غير الفاضلة، وقد عرضها بطريقة توحي بالحديث عن دولة داخل دولة، فهل كان ابن باجة يؤصل لفكرة الثورة على الدولة؟

يرى هنري كوربان أن ابن باجة كان يتحدث عن تدبير متوحدين لإقامة حكومة فاضلة موازية، مكونة من غرباء غنصويين حصلوا الاتصال بالعقل الفعال، لكنه نبه إلى أنها فكرة بعيدة عن أن يكون القصد منها ثورة سياسية، وهذا أمر قد لا يسلمه له من قد يبدو له ملامح ثورة كامنة، ومع ما لاقاه ابن باجة بعد سعة، على يد ساسة المرابطين، فلا يستبعد وجود ثورة فلسفية سياسية ..بالقوة!

وإن عادوا…

لقد تسببت الثورات ذات المعالم الباطنية في ضرر كبيرا بالعدوتين، فـ «ما زالوا يسعون في قلب نظام المسلمين، ويفرقون كلمة المؤمنين، ويسلون السيف على أهل الدين، ويسعون في الأرض مفسدين»، فهذه الثورات المسلحة الباطنية، تفسد الأديان، وتفرق كلمة المسلمين، وتقلب نظامهم، وتنشر الإرهاب والخوف باسم التصوف، فهل لا يزال الفكر المتصوف الباطني مؤهلا لأن يعيد أمثال هذه الثورات؟

ـــــــــــــــــــــــ

*مقال مستخرج من رسالتي في الماستر “مداخل إلى الفكر الباطني في المغرب والأندلس

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *