نظام الإرث.. وتهافت القول العلماني محمد زاوي

 

تنتمي معظم أحكام الإرث إلى صنف “الأحكام الثابتة بنصوص قطعية”. كما أن الأنصبة الواردة في القرآن تدخل في حكم “النص”، والنص في أصول الفقه ما احتمل معنى واحدا لا يخرج عنه، و”لا اجتهاد مع وجود النص” تقول القاعدة الفقهية.  إن الأنصبة المحددة بشكل دقيق، والمستحقة لأصحابها بنص واضح في القرآن، من قبيل النصف (½) والثلثين (⅔) والسدس (⅙) والثلث (⅓) والثمن (⅛) الخ؛ إن هذه الأنصبة لم تترك مجالا للاجتهاد، وكل اجتهاد فيها بزيادة أو نقصان أو حذف فهو مس بصريح الشريعة، أي بالأصول التي ينبني عليها حكمها.

 

نتحدث هنا عن قول الله تعالى: “يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا. وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ” (النساء: 11-12).

 

ونفس الأمر يجب سحبه على قوله عز وجل: “يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ” (سورة النساء، الآية 176).

 

ورغم قطعية هذه الأحكام، لم تسلم من “النقد الحداثوي” دون اعتبار لمقتضى “النص” في “دلالات الألفاظ”. وهو نقد خاضع في مجمله لتصورين، الأول متعلق بتبدل الزمن، والثاني بذكورية وبطريركية الحكم الشرعي. على التصور الأول ترد اعتراضات من قبيل: إلى أي زمن تبدل الزمن؟ وهل تبدل بما يلغي حكم الشريعة؟  وهل هذا الإلغاء مما تفرضه حركة الواقع في موضوعيته أم هو وليد “وهم حداثوي”؟  لا يطرح الحداثوي هذه الأسئلة، فيرى من غير تأمل ولا تحرّ أن تغير الزمن يستلزم تغير الحكم. وفي “العلمانيات الأكثر شمولية”، يقتضي تبدل الزمن تبدّل أصول الأحكام نفسها.

 

أما على التصور الثاني، أي ذكورية وبطريركية الحكم الشرعي، فترد اعتراضات أولها بيان الحالات الكثيرة التي ترث فيها المرأة مثل الرجل أو أكثر منه. كما ترد بمرجعية الحداثة اعتراضات أخرى مثل: ما مدى صحة ذكورية أحكام المواريث؟ وهل فعلا أصبت الذكورية خلفنا في مجتمعات هي إما رأسمالية (الغرب) وإما خليط من الرأسمالية وما قبلها (دول الجنوب ومنها العربية والإسلامية)؟ القول بالذكورية والبطريركية ليس قولا دقيقا بما فيه الكفاية إذا ما تحدثنا عن شرط الإسلام، أي أسباب نزول القرآن الكريم وورود الحديث النبوي الشريف؛ وإنما هي من الأنثروبولجيا الإنسانية العامة التي قسمت التاريخ إلى فترتين “الأمومة” و”الأبوة”. وإننا بهذه المرجعية نفسها لم تغادر مرحلة الأبوة، فمن أين جاءت الحداثوية بمقولة “تخليف الذكورية”؟! كيف لها أن تقول بتبدل الحكم ولم تتأكد بعد من تبدل الواقع والتاريخ؟!

 

هناك اعتراضات حداثوية أخرى توجَّه لنظام الإرث في الإسلام، تقتصر على الإرث بالتعصيب، لا على الإرث بالفرض (فائدة: الورثة في الشريعة إما بفرض منصوص عليه، وإما بتعصيب مقدر، وإما بفرض وتعصيب يجتمعان أو لا يجتمعان). ترى هذه الاعتراضات في بعض أنواع التعصيب ظلما للمرأة، مع التركيز على بنات الهالك إذا لم يكن لهن إخوة. والحال أن التعصيب لا يقتصر على هذه النازلة وحدها، وإنما على أخرى غيرها. أما قولهم إن القرآنَ خلوٌّ من دليل على التعصيب، فتنفيه أدلة نصية (“للذكر مثل حظ الأنثيين”/ أخذ الأولاد للمال كله إرث بالتعصيب/ عصبة بالغير) وأخرى دلالية (“فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث”/ يرث الأب الثلثين بالتعصيب).

 

هذا ولا ينبغي إغفال قصور “العقل الحداثوي” في تحديد “محل الظلم”. فليس إلغاء النصاب هو ما سيرفع الحيف عن المرأة، وليس بث الثروة في الورثة بالتعصيب هو ما سيظلمها ويُفقِرها. التفاوت الاجتماعي ليس حكرا على المرأة، وإنما هي والرجل فيه سواء. أما تقسيم ثروات الهالكين فمؤثر في مجريات الاقتصاد تأثيرا عرضيا فحسب، التأثير الفعلي والجوهري مرتبط بالإنتاج في قواه وعلاقاته. إن التركة بأية طريقة تم اقتسامها ستخضع لقانون الاقتصاد الساري في المجتمع، فيستمر التفاوت الاجتماعي والمشاكل الاقتصادية لأن هذه غير مرتبطة بتطبيق نظام الإرث الإسلامي من عدمه، وإنما بنمط الإنتاج العام. الإرث نفسه ليس نظاما مستقلا عن “نظام الاقتصاد في الإسلام”، بل يستمد نجاعته وفعاليته في ظل هذا النظام لا خارجه، أي مع منع الإسراف والتبذير والاستهلاك الفاحش والسرقة والنهب والاستغلال والربا والاحتكار، وفرض الزكاة وتيسير الصدقات وتنظيمها، إلى غير ذلك من المقتضيات التي يعتبرها الإسلام نظاما له.

 

إن المساس بنظام الإرث في الإسلام ليستبطن خطورة بالغة في مجتمعات تعتمد الإسلام في تماسكها وتنظيمها، وفي دول تجعل منه شرعية لحكمها. إن المساس بالإرث يعني المساس بمعيار الفقه، لأنه مساس بـ”النص”، ولأنه مساس بالقطعي.. فإذا سقط القطعي سقط الإسلام كله. أما علاقة الناس بالقرآن فقد جعلتهم يتعبدون بكل أحكامه دون تمييز بين عبادات ومعاملات، فهي عندهم سواء وإن كانت الأولى تطلب “التوقف حتى يرد الإذن”، فيما تطلب الثانية “الإباحة حتى يرد الحظر” (الشاطبي: “الأصل في العبادات التوقف حتى يرد الإذن، وفي المعاملات الإباحة حتى يرد الحظر”). إنه تركيب خاص بين الديني والدنيوني، الروحي والزمني، التعبدي والسياسي/الاجتماعي… وإن تفكيكه ليس مسألة اختيارية، ولا هي خاضعة لرغبات “دعاة الحداثة”.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *