تراكم على جوهرهم (العرب/المسلمين) النقي غبار بتأثير الغزو الفكري الأوربي، فكان كثير منهم فريسة الدعوة القومية، أو الاشتراكية، أو الشيوعية.. وابتلوا بقيادات كانت من أشد القيادات في العالم جهلا لشخصية الأمة العربية الإسلامية، ومقومات حياتها، ومنابع قوتها ورسالتها الخالدة التي أكرمها الله بها، وكانت أجهل القيادات للطاقات المذخورة في نفس هذه الأمة، وطرق إثارتها، وإلهابها، واستخدامها في صالحها، وفي صالح الإنسانية، أو بالعكس، فكانت هذه القيادات الذكية من أعرف القيادات وأشدها عداء لها وحربا عليها، ترى ذلك عقبة كؤودا في سبيل تحقيق أغراضها السياسية وتطبيق مشاريع أصدقائها الأجانب، وتحقيق مخططاتهم، فتحاربها حربا لا هوادة فيها، وتكرس جهودها وذكاءها ووسائلها على إزالتها والقضاء عليها، وتجفيف منابع الإيمان والغيرة، والعاطفة الدينية في نفس هذه الأمة، حتى يزول الخطر كليا، ويصفو لها الجو، لأجل ذلك تخوض هذه القيادات حربا داخلية هي أشد وأعنف وأطول، وأعمق من حربها مع قوى الاستعمار ومع الصهيونية، وتبذل كل ما تملك من طاقات ووسائل في إزالة ما نسميه الركام العقلي، أو الأنقاض التاريخية.
الفوضى الفكرية والاضطراب العقائدي والخلقي
وابتليت الأمة العربية كذلك بأساتذة وكتاب متشكِّكين، ومشكِّكين، وقد تلقوا ثقافتهم في العواصم الأوربية، وجامعاتها الشهيرة، آمنوا بها إيمانا راسخا، وكانوا نسخة فكرية ثقافية صادقة لأساتذتهم الغربيين، ورسلا للثقافة والأفكار الغربية، وأكثر إخلاصا وحماسا من أساتذتهم، وأكثر جراءة –إذا لم أقل وقاحة- من هؤلاء المستشرقين، فشكَّكوا الجيل الجديد المثقف في كل ما يقوي روحه، وينمي العواطف الإسلامية، ويغذي عقله المؤمن، ويؤهله للدفاع عن مقدساته وشعائره، ويقويه على مقاومة الإغراءات المادية والصمود في المعترك الحربي، والخلقي، والعقائدي، وأضعفوا الثقة وأفقدوها بتاتا بمنابع الدين الأصلية ومصادره الأولية، وشكَّكوا حتى في شخصيته، وفي تاريخه، وصلاحية لغته وأدبه، وخلود رسالته، وفضل التشريع الإسلامي، وصلاحية الإسلام لمسايرة الزمن فضلا عن سبقه للزمن ولقيادته للركب البشري، وهم “المسؤول الأول” عن هذه البلبلة الفكرية التي تعانيها الأمة العربية منذ ستين سنة تقريبا، كانت من أكبر أسباب النكبات التي نكبت بها، وفي مقدمتها نكبة 5 يونيو، وساعدت على ذلك حركة الطبع والنشر التي قويت في العصر الأخير في بعض العواصم الكبرى، وتدفقت كالسيل العارم، تحمل معها الغث والسمين والزبد الطافي، والتي تحررت من كل قيد، وليس دافعها إلا الارتزاق أو الرواج، ولو كان على حساب الأخلاق والأعراض. (عن كتاب “محاضرات إسلامية في الفكر والدعوة”).