وقع محمد عابد الجابري صاحب مشروع “نقد العقل العربي” في أخطاء منهجية كثيرة يتعلق بعضها بمنهجية الكتابة العلمية وبعضها بمنهج النقد التاريخي.. ومن جملة أخطائه التاريخية المتعلقة ببداية تدوين العلوم عند المسلمين، إشارته بعد ذكر ما قاله أهل السنة عن ذلك أن “الشيعة يدّعون بأنهم هم أول من دوّن العلوم، إذ تعود بداياته إلى زمن علي بن أبي طالب وما بعده، وذكروا أن سلمان الفارسي أول من صنف في الآثار، وأن أبا ذر الغفاري هو أول من صنف في الحديث والآثار بعد المؤسسين، وأن ابن أبي رافع المُتوفى في أول خلافة علي سنة 35 هجرية، ألف كتابا عنوانه: السنن والأحكام والقضايا، وبذلك يكون هو الأقدم في التأليف بالضرورة”. ثم ادعى الجابري أن “الذهبي تكلم عن بداية العلوم عند السنة، وسكت عن تدوين العلوم عند الشيعة سكوتا “ليس صادرا عن سهو أو عن دافع شخصي، بل هو في الحقيقة سكوت من جانب السلطة المرجعية المعرفية والإيديولوجية التي ينتمي إليها الذهبي، وهي السلطة التي تُحد العقل المعرفي الإيديولوجي لأهل السنة كافة” اهـ.
وقوله هذا خطأ من وجهين، أولهما: أنه صدّق ما نقله عن الشيعة من دون دليل ولا تحقيق، وكذّب ما قاله أهل السنة من دون دليل ولا تمحيص أيضا.
وثانيهما: أنه اتهم الذهبي بلا حجَّة ولا برهان، وكان عليه أن يتحقق أولا مما ادعاه الشيعة قبل أن يأخذ برأيهم، لأن ما قاله هؤلاء هو مجرد دعوى وليس دليلا، والدعوى لا يعجز عنها أحد. ولكنه سايرهم وبنى على دعواهم فكرته غير الثابتة تاريخيا، علما بأن نقل الجابري عن الشيعة بأنهم كانوا من أوائل المؤلفين هو ادعاء غير ثابت تاريخيا، بل ولا يصح، لأن أبا ذر وسلمان وأبا رافع رضي الله عنهم هم كغيرهم من الصحابة الأجلاء كانوا كلهم على منهاج واحد، لا رفض فيه ولا سبئية، وتراجمهم موجودة في مصنفات أهل السنة، تشهد على أنهم ما كانوا يؤمنون أصلا بفكرة الإمامة ولا الوصية ولا العصمة، وإنما كانوا كعلي وآل بيته رضي الله عنهم لم يدَّعوا الإمامة ولا العصمة، وكانوا يتولون الشيخين .
وأما سكوت الذهبي فليس سببه ما زعمه الجابري من أنه أخفى الحقيقة لدوافع مذهبية، وإنما هو دوّن ما وجده عن هؤلاء من دون خلفيات مذهبية، لأنه عندما ترجم لأبي ذر وسلمان وأبي رافع وجدناه يذكرهم على أنهم صحابة أجلاء، كغيرهم من الصحابة الكرام، ولم يُترجم لهم على أنهم من الشيعة الإمامية كما يدعي الشيعة، وإنما ذكر عنهم ما تيسر له من أخبارهم .
ونشير هنا إلى أن التدوين الذي قصده الذهبي هو التدوين المتعلق بتصنيف الكتب المنظمة الموجهة للعلماء والمتداولة بين أهل العلم، ولم يقصد التدوينات الشخصية من مذكرات وتعليقات وصحف خاصة، فهذا النوع من التدوين كان منتشرا بين علماء الصحابة وأهل العلم في زمانهم، وبعضه يعود إلى زمن النبي عليه الصلاة والسلام، كالصحيفة الصادقة لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما .
وبذلك يتبن أن الجابري لم يكن موضوعيا ولا حياديا في موقفه من مسألة بداية التدوين عند السنة والشيعة، فصدّق ما نقله عن الشيعة بلا دليل ولا تحقيق، وكذب السنيِّين بلا دليل ولا برهان، واتهم الذهبي بلا حجة ولا بيان.
ومن جملة أخطائه التاريخية أنه عندما نقل ما ادعاه الشيعة عن بداية التدوين عندهم، كان مما نقله عنهم أنه قال: “وابن أبي رافع المُتوفى في أول خلافة علي حوالي 35 هجرية، وقد ألف كتابا بعنوان: السنن والأحكام، وبذلك يكون أبو رافع، وقد كان مولى للرسول، هو أقدم في التأليف بالضرورة” .
والجابري أخطأ هنا عندما لم يُفرق بين الأب والابن، فذكر: ابن أبي رافع، ثم قال: وبذلك يكون أبو رافع.. وهذا غير صحيح، لأن الأب هو أسلم مولى النبي عليه الصلاة والسلام وكنيته: أبو رافع ، تُوفي في خلافة علي، وقيل في زمن عثمان، وأما الابن فهو عبيد الله بن أبي رافع، كان كاتبا لعلي بن أبي طالب، وهو من الطبقة الثالثة، حتى أن الشهاب الزهري المولود سنة 50 هجرية، قد روى عنه .
ومن جملة أخطائه التاريخية كذلك جعله المعتزلة من أهل السنة، عندما قال: “بل أيضا لدى أهل السنة أنفسهم معتزلة وأشاعرة”، وقال: “ولدى أهل السنة خاصة معتزلة وأشاعرة”، وقال أيضا: إن ابن حزم أراد تأسيس نظام معرفي “يُؤسس فكر أهل السنة معتزلة وأشاعرة” .
وكلامه هذا غير صحيح تماما فيما يتعلق بالمعتزلة، ولا ندري هل تعمد ذلك أم لا؟! وقد كرر ذلك ثلاث مرات، والرد عليه لا يحتاج إلى بحث ولا إلى توثيق، لأن الأمر واضح ثابت متواتر، من أن المعتزلة ظهروا كطائفة عندما اعتزل واصل بن عطاء حلقة شيخه الحسن البصري المتوفى سنة 110 هجرية، والتف حوله أصحابه، ثم تميزت كل طائفة بفكرها ومذهبها، وبمنهجها وجماعتها، ودخلتا في مناظرات ومجادلات كثيرة، بلغت أوجها في محنة خلق القرآن المشهورة، وفيها كفّر كل منهما الآخر . فالذي قاله الجابري غير صحيح تماما. (عن كتاب الأخطاء التاريخية والمنهجية في مؤلفات محمد أركون ومحمد عابد الجابري، -دراسة نقدية تحليلية هادفة- الدكتور خالد كبير علال).