من المسلم به قطعا أن لكلِّ طريقٍ بداية وأن لكل عاقبةٍ وخيمةٍ علامةٌ وآية، فالزاني ما زنى إلا بعد أن تدرّج مراحلَ عدة، والمبتدع ما صار منافحا عن بدعته إلا بعد أن سلك طريقا معوجا مسدودا، والمنكِر للحجاب والنقاب واللحية ما خاض في هذا الضلال إلا بعد أن صاحب الشيطان، وهكذا فكلُّ مَن رأيناه في طريق منحرف، سواء في وسطه أو نهايته، فلنعلم علم يقينٍ أنه مَرَّ حتما وجزما ببداية سلكها عن طيب خاطر منه مُغمِضا عينيه، فاتحا فاه مخالفا لواعظ الله في قلبه، وسبب ذالك استحواذ الشيطان بتسليط داعي الهوى عليه وحقَّ في مثل هذا قول الشاعر:
فنفسك لم ولا تلم المطايا *** ومت كمدا فليس لك اعتذار
فطريق الحق والباطل رغم أنهما متناقضان متباعدان، لكنهما واضحان فالذي خالف الحق والصواب سواء كانت المخالفة معصية أو بدعة أو تطاولا واستهزاء بالدين وأهله وأصوله فإنه يعلم إن صدق نفسه أنه متبع لهواه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الحلال بَيِّنٌ وإن الحرام بَيِّنٌ..” أخرجه البخاري، فما هو إذن هذا الهوى الذي يُتلف العقل ويمسخ الفطرة، ويبعد من الصواب ويقرب إلى الضلال، والذي لاشك أنه من بنيات الشيطان وثاني أضلاع ثلاثيته المسمومة بعد أن مررنا بآفة تقديم العقل على النقل، وبالتالي ما هي عواقبه وكيف نحاربه؟
الهوى: في اللغة من هوى يهوى هوى، وهو أن تتبع محابّك كلذَّة تستمتع بها، أو مصلحة تجنيها، أو دنيا تصيبها، وتترك محابَّ الله عز وجل كالصلاة والزكاة والحج وصلة الأرحام وغير ذلك.
عواقب إتباع الهوى
لاِتِّبَاعِ الهوى عواقب كثيرة ومتعددة، منها ما هو محذر منبه رادع، كالذي لا يتوب ولا يخالف هواه من خمر أو سرقة..حتى يعاقب، أو يُبتلى بمرض مِن الأمراض الخبيثة أو حادثة من الحوادث المخيفة، وهذا الصنف سعيد بالمقارنة مع الذي يملى له حتى إذا أُخِذَ لم يُفلت قال تعالى: “وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى” طه. ومنها أيضا أمرٌ خطير وشرٌّ مستطير ألا وهو التشكيك والتكذيب بالدين وأصوله، قال الله عز وجَلَّ:”َ وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ” القمر، قال ابن كثير رحمة الله عليه في تفسير هذه الآية: (أي كذبوا بالحق واتبعوا ما أمرتهم به آراؤهم وأهواؤهم من جهلهم وسخافة عقلهم)، فالملاحدة والمعتزلة والرافضة والمرجئة وغيرهم من فرق الضلالة ما شككوا وكذّبوا بالأصول المتفق عليها عقلا ونقلا إلا بعد أن اتبعوا الأهواء والآراء الفاسدة، وفي زماننا هذا من دقق في أهله -أقصد المخالفين لمنهج الله عز وجل كأصحاب الخرافات والشطح والبدع وأصحاب أكذوبة الحداثة والتنوير المشككين بالمسلمات كتحريم الخمر ولحم الخنزير المتهمين أمتهم بالكذب المزكين غيرها من الأمم التي ذمها الله تعالى وأصحاب فكر التكفير وقتل المسلم وإحلال دمه وماله لمجرد المعصية رغم إقراره بشهادة التوحيد التي لا ريب أنها عاصمة للدماء والأموال وأصحاب الألسن الطويلة الآكلين لحوم العلماء وأهل الفضل وأصحاب فخ إبليس المتمثل في قول قائلهم:
فأكثر ما استطعت من الخطايا *** إن كان القدوم على كريـم
فكل هؤلاء وغيرهم من دقق النظر في أحوالهم وجدهم أصحاب أهواء في منهج الصحابة الذي هو أسلم وأعلم وأحكم، وإلى هذا أشار ابن القيم رحمه الله في معرض كلامه عن الهوى وأحوال أصحابه في كتابه الماتع (عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين) فقال: “فمنهم المحارب لله ورسوله الساعي في إبطال ما جاء به الرسول بالصد عن سبيل الله، ويبغيها جهده عوجا وتحريفا ليصد الناس عنها، ومنهم المعرض عمَّا جاء به الرسول، المقبل على دنياه وشهواتها فقط، ومنهم المنافق ذو الوجهين الذي يأكل بالكفر والإسلام، ومنهم الماجن المتلاعب الذي قطع أنفاسه بالمجون واللهو واللعب”.
كيفية مجاهدة ومحاربة الهوى
1- الاستعانة بالله: قال تعالى: “وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ” الأعراف، فلو أن كل مسلم خاف الهوى والوقوع فيه اِلتجأ إلى الله سبحانه وتعالى واستعان به لحفظه من شر الشيطان..
قال شيخ لتلميذه مختبرا تعلقه بالله خالقه:
يا بُني أرأيت إن مررت بغنم فنبحك كلبها ماذا تفعل؟
قال: أرميه بحجر.
قال: وإن عاد؟
قال:أرميه بثان.
قال: وإن عاد؟
قال أرميه بثالث.
فقال الشيخ: يا بُني ذلك أمر يطول، ولكن استعن بصاحبه يكفه عنك، وكذلك إذا أَلَمَّ بك الشيطان فاستعن بالله يكفه عنك.
2- قطع داعي الهوى عند بدايته
قال تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ” النور فالعدو لا يمكن أن يبدأك من آخر مرحلة، وإنما يبدأ بالوسوسة ثم الفكرة.. ثم الفعل، واللبيب العاقل دائما يُطفئ النار قبل تعاظمها، فإن تعاظمت فسيجد صعوبة في إخمادها إن لم تستعص عليه وهكذا أيضا داعي الهوى في القلوب، إن ترك حتى تمكن منها فإنه يفعل الأفاعيل والأعاجيب بصاحبه وكم رأينا من أحوال لأناس احدودبت ظهورهم ولم يبق لهم من الدنيا إلا توديعها فتنوا بحب الصبايا والنساء والخمر والمجون..، ولأشخاص أحلوا وحرموا أمورا ما كانوا ليتجرَّؤوا عليها لولا سكرة الهوى، فالله سبحانه وتعالى لما ابتلاك بالأعداء الظاهرة والباطنة، أمدَّك مقابل ذلك بجنود تردهم وعُدَّة وحصون تعجزهم، يقول ابن القيم رحمه الله تعالى وهو يتكلم عن هذه الجنود وكيف يقطع بها المسلم الطريق على الشيطان: “وجعل الله مقابل الهوى الحامل له على طاعة الشيطان والنفس الأمارة نورا وبصيرة وعقلا يرده عن الذهاب مع الهوى، فكلَّما أراد أن يذهب مع الهوى ناداه العقل والبصيرة والنور: الحذر الحذر فإن المهالك و المتالف بين يديك وأنت صيد الحرامية و قطاع الطريق إن سرت خلف هذا الدليل”. الوابل الصيب ص34
3- النهوض عند السقوط وعدم الاستسلام
من الأمور التي جعلها الله تعالى علامة في الرغبة إلى الوصول إلى محابِّه عدم الرضا بالبقاء في مراتع الشيطان وعدم الاستسلام وأن يرجع المسلم بسرعة إذا ضل الطريق قال الله سبحانه: “وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ” آل عمران، فالمسلم إن ظلم نفسه سواء كان هذا الظلم معصية من المعاصي أو شبهة من الشبه أو كان تطاولا على العلماء ورثة الأنبياء الذين أمرنا الله بحبهم واحترامهم وعدم التجني عليهم وألا نحكم عليهم من بعيد بل ندنوا ونقترب، ولاشك أننا سنستفيد، إذ لو اقتربنا لرأينا الحقيقة بأم أعيننا من آثار تدل على إخلاصهم وصدق دعوتهم من كتب ومجلدات ودروس ومحاضرات وتلاميذ وطلبة صاروا مصابيح ودعاة ومشايخ وانتشار للسنة في المدن والبوادي والدور والدشور حيث التزم بها الصغار والكبار ذكورا وإناثا، وهذا ديدن العلماء المخلصين ليس في زماننا هذا بل في كل زمان، فكيفما كان ظلمك لنفسك فهناك متسع للرجوع مادام في العمر بقية، فاقطع الطريق على الشيطان وارجع إلى الطريق الصواب ولا تُصِرَّنَّ على الذنب والخطأ فإنه لو تكلمت جوارحك لقالت لك: “عُدْ! فتالله لن تندم قبل أن يأتي يوم أومر فأتكلم” .هذا والله تعالى أعلم وهو حسبنا و نعم الوكيل.