تحدثنا في عدد سابق عن وليمة العرس بصفتها محطة مهمة من محطات الزواج، وذكرنا في هذا السياق: معنى الوليمة وحكمها ونفقتها وآداب الداعي وآداب المدعو، وكان ذلك هو الجزء الأول من الموضوع؛ وهو المخصص لبيان المشروع في وليمة العرس.
وأخصص هذا الجزء الثاني لبيان المخالفات الشرعية التي تفشت في الأفراح (ولائم الأعراس)، والتي ظهرت في بلدنا منذ عقود، وسرت في مجتمعنا سريان النار في الهشيم، لموافقتها هوى النفس الأمارة بالسوء.
وقد استنكرها العلماء آنئذ، وأكدوا منافاتها للشرع الحنيف؛ ومن ذلك ما جاء في توصيات المؤتمر السابع لرابطة علماء المغرب المنعقد في جمادى الثانية سنة 1399: “..منع حفلات (الشيخات) الماجنة التي يختلط فيها الرجال بالنساء وإبقاء الحفلات على طابعها المغربي المتعارف الذي يتحاشى الاختلاط في تلك المناسبات”. (جريدة الميثاق، العدد 297).
لكن الأمر كان على حد قول الشاعر:
ولقد أسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي
وسأقسم الكلام على هذه المخالفات إلى قسمين: قسم تفشى بين عامة المغاربة، وقسم تسرب إلى المنتسبين إلى الاستقامة والصلاح.
القسم الأول: مخالفات العامة
1- الاختلاط بين الرجال والنساء
وفي تحريمه نصوص كثيرة؛ منها:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها» رواه مسلم.
قال النووي -رحمه الله-: “إنما فضل آخر صفوف النساء الحاضرات مع الرجال لبعدهن من مخالطة الرجال ورؤيتهم وتعلق القلب بهم عند رؤية حركاتهم وسـماع كلامهم ونحو ذلك”.
قلت: هذا في المسجد، فوليمة العرس أولى بالحكم.
2- تبرج النساء
حيث يتفنن بإظهار زينتهن وإبراز مفاتنهن، تتقدمهن العروس التي تصل في ذلك إلى مستوى فاحش متدني، وكأنه لم ينزل في الأمة قرآن فيه قول الله تعالى: {وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى}، وكأنه لم يبعث في هذه الأمة نبي قال: «صنفان من أهل النار لم أرهما؛ قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات على رؤوسهن كأسمنة البخت، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها لتوجد من مسيرة كذا وكذا». رواه مسلم.
فماذا تقول المرأة حين تقف بين يدي ربها للحساب وقد جاهرته بالمعصية بذلك الشكل الفظيع؟!
3- تضييع الصلاة
سيما صلاتا العشاء والفجر وقد قال الله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (البقرة 238)
وفي الموطأ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه كتب إلى عماله: “إن أهم أموركم عندي الصلاة، فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع”.
4- الغناء بآلات الطرب
وهو مشتمل على مخالفات:
– الأولى: التغني بكلمات ساقطة وألحان ماجنة تحرك النفس إلى الفاحشة وتتسبب في نشر العهر والفجور.
سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشعر؟ فقال: “هو كلام، فحسنه حسن، وقبيحه قبيح”. أخرجه البخاري في الأدب المفرد.
– الثانية: استعمال آلات الطرب.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: “ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف (آلات الموسيقى)”. رواه البخاري.
فقوله “يستحلون المعازف” دليل على تحريمها.
– الثالثة: الإكثار والمبالغة
عن أبي سعيد الخدري قال: بينا نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرج إذ عرض شاعر ينشد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لأن يمتلئ جوف رجل قيحا خير له من أن يمتلئ شعرا” (متفق عليه).
– الرابعة : أذية الجار
بالموسيقى الصاخبة والأصوات المرتفعة والدعوة إلى الفاحشة وغير ذلك:
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : “والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن؛ من لا يأمن جاره بوائقه” (متفق عليه).
5- التصوير بـ”الكاميرا”
وحكم هذا التصوير تابع لحكم ما يصوَّر؛ فإذا كان هذا الأخير محظورا كان التصوير محرما، ولا شك أن هذا هو حكم تصوير هذه الأعراس المنكرة، والتصوير في هذه الحال نوع من إشاعة المنكر في الناس وقد قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (البروج 19).
6- تقديم الخمر
التي وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بأنها أم الخبائث وقال فيها: “أتاني جبريل فقال: يا محمد إن الله عز وجل لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها وشاربها وحاملها والمحمولة إليه وبائعها ومبتاعها وساقيها و مستقيها”. (رواه أحمد وصححه الألباني).
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: “يا أيها الناس إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعدن على مائدة يدار عليها الخمر” (رواه أحمد وصححه الألباني).
7- “الصباح”
وهو اسم لعادة قبيحة تتمثل في كون الحاضرين للوليمة لا ينصرفون حتى يطلعوا على تبان العروس (سروالها القصير) وقد تلطخ بالدماء! وقد يطوفون به في السيارات وغيرها!!
وصدق أنبياء الله: “إذا لم تستح فاصنع ما شئت”.
8- التبذير
الذي تحمل عليه المباهاة والرياء والتنافس المذموم، حيث يحرص الأب أو الزوج على أن تكون وليمته هي الأفخر والأكثر نفقة، ولا يرضى أن يتفوق عليه أحد في ذلك؛ وقد قال الله تعالى: {وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا، إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} (الإسراء).
هذا إذا كان ذا مال وجدة، وكثيرون يكلفون أنفسهم ما لا يطيقون، ويستدينون بالربا المبالغَ الطائلة لكراء أغلى قاعات الأفراح، والإتيان بالمغنيين ومنظمي الحفلات الذين يطلبون مبالغ خيالية، هذا وفي الأمة فقراء ومساكين وأيتام وطلبة علم في حاجة إلى من ينفق عليهم.
وبسبب هذا تمحق البركة وتستحوذ الشياطين على القلوب.
ومن مظاهر البذخ والترف عند بعضهم عرض الطعام والشراب في آنية الذهب والفضة التي يقول فيها النبي صلى الله عليه وسلم: “الذي يشرب في إناء الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم” (متفق عليه).
9- وبعضهم يضيف إلى بعض تلك الشرور: البدعة؛ حيث يخصص يوما للطلبة الذين يقرؤون القرآن جماعة ويأخذون مقابلا لذلك! وكلاهما محظور؛ فإن القراءة الجماعية بدعة كما قال الإمام مالك، ومن مفاسدها؛ أنها تؤدي إلى تقطيع القراءة، وترك التجويد وكلاهما محرم بالأدلة المعروفة في موطنها.
وأما أخذ الأجر على قراءة القرآن فالآخذ والمعطي آثمان لما يلي:
عن سهل بن سعد الساعدي قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما ونحن نقترئ فقال: “الحمد لله كتاب الله واحد وفيكم الأحمر وفيكم الأبيض وفيكم الأسود، اقرءوه قبل أن يقرأه أقوام يقيمونه كما يقوم السهم يتعجل أجره ولا يتأجله”. (صحيح أبي داود).
تلك تسعة مخالفات شاعت في أعراس المغاربة، بينتها لينتفع من كان يهمه أمر دينه ورضا ربه، وبالله التوفيق.