شواطئنا وفلسفة التعري بقلم: حمّاد القبّاج

يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ” (الأعراف27).  قال العلامة الطاهر بن عاشور: “وفي الآية إشارة إلى أنّ الشّيطان يهتم بكشف سوأة ابن آدم؛ لأنّه يسرّه أن يراه في حالة سوء وفظاعة”.

بعيدا عن كل المزايدات والاتهامات التي يكيلها من اتخذ إلهه هواه، وصار لا يحكم على الأشياء إلا من منطلق اللذة والتشهي، ويخاطب كل من طرح طرحا يمس فيه بشهواته وأهوائه، بخطابٍ خلَعَ لَبوس الأدب، ونزعَ حِليَة الخلق الكريم، خطابٍ يطفح بالحقد والكراهية، يوصف فيه المخاطَب بأوصاف ساقطة نابية، لا لشيء إلا لأنه قال: اللهم إن هذا منكر! وبعيدا عن كل أسلوب ملتوٍ، يُضيِّع جزءا كبيرا من أهداف النصح، ويُسقط جانبا مُهمّا من مقاصد التوجيه إلى البر، والإرشاد إلى الخير …أقف في هذا المقال مع ظاهرة ارتياد الشواطئ للاستحمام والاستلقاء على الرمال، بالطريقة التي اعتادها كثير من الناس في بلدنا وفي غيره؛ فأقول:

إن أول ما نلاحظه ونحن نتأمل في هذه العادة، أنها منافية لما وجَّه القرآن إليه بني الإنسان، في قول الله تعالى:

{يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ}(الأعراف 26 – 27).

قوله تعالى: {لباسا} أي: اللباس الضروري، وقوله سبحانه: {ريشا} أي: لباس الزينة الكمالي. وقد نزلت هاتان الآيتان بسبب عادة شنيعة كانت بين العرب، شبيهة إلى حد كبير بهذه التي نتحدث عنها؛ وهي طوافهم بالبيت عراة، واعتقادهم الجازم بعدم قبح ذلك، بلِ استحسانُهم له:

قال صاحب النكت والعيون (ج 1 / ص 475):

“قوله عز وجل: {يَا بَنِيَ آدَمَ َقَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً ..} نزلت هذه الآية في قوم من العرب كانوا يطوفون بالبيت عُراة ويرون أن ذلك أبلغ في الطاعة وأعظم في القربة! وفي دخول الشبهة عليهم في ذلك وجهان:

أحدهما: أن الثياب قد دنستها المعاصي فخرجوا عنها!

والثاني: تفاؤلاً بالتعري من الذنوب! فقال الله تعالى: {قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً} أي ما تلبسون من الثياب..”.

ولئن كانت هذه هي فلسفة المشركين في تعريهم، فإن لعراة الشواطئ فلسفة لا تمت للمأخذ التعبدي بصلة، بل تنبثق من فكر لاديني، يلغي مفهوم العبادة، ويستبدله بمذهب إباحي، يدعو إلى الحرية المطلقة، التي لا تخضع لقيد، ولو جاء به الدين الحنيف، وأملاه الشرع القويم!!

وهكذا يُطَرِّدون هذا الأصل الفاسد لتسويغ هذه العادة؛ فكأنهم يقولون -ولسان الحال أبلغ من لسان المقال-: نحن أحرار في أبداننا نفعل بها ما شئنا! نستلقي بها عارية على الرمال، ونسبح بها مكشوفة في الشواطئ! وكل من انتقدنا فهو مخطئ، إذ تَدَخَّل في حريتنا، وضيَّق دائرة تمتُّعِنا!!

وبهذه الفلسفة يُصادمون الفطرة، ويخرِمون المروءة، ويُواقعون المعصية، ويتجردون من نعمة عظيمة امتن بها الرحمن على بني الإنسان، وفضَّله بها على الحيوان؛ وهي نعمة اللباس:

قال الطاهر بن عاشور في التحرير والتنوير(ج 5 / ص 264)، في معرض تفسيره للنص القرآني المتقدم:

“وهذا تنبيه إلى أنّ اللّباس من أصل الفطرة الإنسانيّة، والفطرة أوّل أصول الإسْلام، وأنّه ممّا كرم الله به النّوع منذ ظهوره في الأرض، وفي هذا تعريض بالمشركين إذ جعلوا من قرباتهم نزع لباسهم بأن يَحُجّوا عُراة …فخالفوا الفطرة”.

وقال في (ج 5 / ص 266):

“والنّداء بعنوان بني آدم: .. لزيادة التّنويه بمنّة اللّباس، وفيه توكيد للتّعريض بحماقة الذين يحجّون عُراة. وقد نُهُوا عن أن يفتنهم الشّيطان، وفُتون الشّيطان حصول آثار وسوسته، أي: لا تُمكِّنوا الشّيطان من أن يفتنكم، وهذا من مبالغة النّهي، ومنه قول العرب: لاَ أعْرِفَنَّك تفعل كذا: أي لا تَفْعَلَن فأعْرِفَ فعلك.. فالمعنى لا تطيعوا الشّيطان في فتْنِهِ فيفتنَكم”.

قال: وجملة: {ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون} استئنافٌ ثانٍ، على قراءة: {ولباسَ التقوى} بالنّصب، بأنِ استأنف بعدَ الامتنان بأصناف اللبّاس؛ استئنافين يؤذنان بعظيم النّعمة: الأوّل: بأنّ اللّباس خير للنّاس، والثّاني: بأنّ اللّباس آية من آيات الله تدلّ على علمه ولطفه، وتدلّ على وجوده، وفيها آية أخرى وهي الدّلالة على علم الله تعالى بأن ستكون أمّة يَغلب عليها الضّلال فيكونون في حجّهم عُراةً، فلذلك أكّد الوصاية به”.

قلت: وفيها آية أخرى وهي الدّلالة على علم الله تعالى بأن ستكون أمّة يَغلب عليها الضّلال فيستلقون على رمال الشواطئ عُراةً.

وكيف لا تكون هذه العادة ضلالا، وفيها مجاهرة بالعصيان، ومخالفة صريحة للنصوص التي نهت عن التبرج والعريّ، وأمرت بستر العورات، والالتزام بالحجاب الشرعيّ:

عن معاوية بن حيدة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: “احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك”. قال: قلت: “فإذا كان القوم بعضهم في بعض؟” قال: “إن استطعت ألا يَرَيَنَّها أحد فلا يرينها” قلت: “يا رسول الله إذا كان أحدنا خاليا؟”. قال: “فالله أحق أن يستحيى منه”. (رواه الترمذي).

وعورة الرجل من السرة إلى الركبة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : “فإن ما أسفل من سرته إلى ركبتيه من عورته“. (رواه أحمد).

‏وأما عورة المرأة فيبينها الحديث التالي:

عن قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الجارية إذا حاضت لم يصلح أن يُرى منها إلا وجهها ويداها إلى المفصل» (رواه البيهقي).

وفي التنزيل العزيز: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى}(الأحزاب33).

وقال سبحانه: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِن}(النور31َّ).

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ}(الأحزاب59).

فكيف يفعل أو يُسِّوغُ مؤمنٌ أمرا يصطدم مع هذه النصوص القرآنية والنبوية؟!

وقد أجمع علماء المسلمين على تحريم تبرج النساء، فضلا عن تعريهن، وأجمعوا على وجوب الحجاب، ومن أقوال علماء المذهب المالكي في هذا الصدد: قول الشيخ الدردير رحمه الله: “عورة الحرة مع رجل أجنبي منها، أي ليس بمحرم لها، جميع البدن غير الوجه والكفين”. (الشرح الصغير: 1/289). وقال الشيخ الزرقاني رحمه الله: “عورة الحرة مع رجل أجنبي مسلم غير الوجه والكفين من جميع جسدها”. (شرح الزرقاني على مختصر خليل: 1/176).

فتلك نصوص الوحي، وهذه أقوال العلماء، فهل من مدّكر؟!

..وبعدُ، فإن المفاسد السلوكية والصحية والاجتماعية لهذه العادة بيِّنة جلية، وإن اجتهد منظرو فلسفة التعري وسدنة الفكر الإباحي في إخفائها والتهوين من شأنها: فإنها تنشر في المجتمع الرذيلة والفاحشة، ونحن نعلم ما يترتب على هذا الانتشار من الأدواء الصحية، والمشاكل الاجتماعية، وما يؤدي إليه من انتهاك الأعراض، واختلاط الأنساب، وموت الغيرة والشرف، وتفكك الأسر، وضياع الأولاد ..: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى}(طه127).

وفي هذا السياق أكد عدد كبير من الأطباء المختصين في الأمراض الجلدية، على خطورة أشعة الشمس على الجلد.

وأفادت إحدى المختصات أن أشعة الشمس تتألف من أشعة (UVA) التي تُسبّب سرطاناً للجلد على المدى الطويل، وأشعة(UVB) التي تعطي اللون الزهري للجلد. وأشارت أبحاث إلى أن السيدة التي تتعرض لأشعة الشمس كثيراً تصبح جلدة وجهها مجعدة وتظهر أكبر من عمرها، ومن هنا أوصوا باستعمال مرهم خاص (ecran total)، يقلل من نسبة الإصابة بتلك الأضرار!  وأكد هؤلاء المختصون على أن اصطحاب الأطفال إلى هذه الشواطئ يشكل خطرا عليهم، وأن الضرر عليهم أكبر؛ لأن بشرتهم حساسة ويبقى تخزين أشعة الشمس في الجلد عندهم وقتاً طويلاً…وبعد هذا حُق لنا أن نتساءل: هل يبقى لفلسفة التعري! مع هذه الحقائق وزن؟!..

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *